تعودت منذ أن أصبح بين أصابعى قلم أحارب به، وعاهدت نفسى يوم أن أصبح لى صوت يكسر حاجز الخوف ليسكن أفئدة المسئولين.. عاهدت نفسى أمام الله على أن يكون صوتى هو صوت الغلابة وضمير الحق للمظلومين مهما كلفنى الصراع ومهما تداعت علىّ الأحداث، أو تكاتفت ضدى الأصوات المُغرضة.. فأحيانا تدفعنا عقائدنا لأن نُلقى بأنفسنا فى دوامات الرمال الناعمة بكل جسارة ودون خوف من الغرق. تطرقت الأسبوع الماضى إلى موضوع أحسبه شائكا ولكنه بلا شك استحق أن أمشى حافية فوق أشواكه دون الخوف من أن تُدمى قدماى.
موضوع حذرنى أصدقائى من الخوض فيه، ودفعنى قُرائى المؤمنون بقلمى للكتابة عنه.. طرح مقالى الأسبوع الماضى تساؤلا عن كيفية التخلص من الفساد فى مصر وهل الخلاص فى يد الرقابة الإدارية للهيئات أم الرقابة الذاتية للأفراد؟
جاءتنى مئات التعليقات، والاقتراحات.. وفى إطار مخاوف طالما سمعتها من رجل الشارع عن سطوة الفساد ورجاله.. بات السؤال حائرا: لماذا مع وجود عشرات اللجان والهيئات والمؤسسات لايزال الفساد ينخر فى المجتمع حتى كاد أن يحول أخضره إلى يابس؟
لماذا كنا ومازلنا- برغم كل الجهود التى تبذلها الرئاسة- نشعر بأن المُنتج النهائى صفر! لماذا تبدو المُحصلة النهائية هى سقوط الشرفاء تحت أقدام قراصنة المال والمنتفعين؟ ولماذا يبدو العدل مجرد سراب فى طريق طويل تفترشه خطايا الفاسدين؟!
قبل أن أكتب مقالى الماضى، كان بريدى الإلكترونى قد امتلأ بالرسائل التى كدت أن أشم فيها رائحة اليأس، وألمح بين سطورها أنين المظلومين.. فكان بعضها يحمل الشكوى، وبعضها يحمل الغضب الجارف.
الشكاوى مُرسلة إلى كل الصحفيين الزملاء.. ومُرفق بها عشرات الخطابات المسجلة بعلم الوصول إلى هيئات الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة والجهاز المركزى للمحاسبات بل وللسيد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء
إذن فقد أصحاب المظالم الثقة فى الدولة، وأصبحوا يخاطبون الأقلام والأصوات الصحفية.. وإليكم عينة عشوائية بسيطة من تلك التظلمات:
تظلم مُرسل إلى وزارة الصحة بالأقصر عن مخالفات يرتكبها مدير عام الأسنان بإحدى الوحدات الصحية ضد طبيب أسنان أعزل اكتشف فساد رئيسه، فنكل به!
أهالى قرية الجديدة وعزبة الألفية بالشرقية يستغيثون بإزالة تعديات حدثت من أصحاب النفوذ وبلطجية تلك المناطق على الأراضى الزراعية، وهى تعديات تتم بالرشاوى مرة وبالقوة مرات!
الأستاذ «طارق» الذى بعث إلىّ أكثر من مرة ليشتكى رئيس هيئة حكومية يعمل بها تابعة لوزارة التضامن الاجتماعى، مؤكدا أنه طرق كل الأبواب ليأخذ حقه ويرفع الضرر عنه لأنه لا يريد أن ينزلق إلى طريق الخطأ الذى يجبره رئيسه على السير فيه.. والموضوع برمته قيد الشئون القانونية بلا أى جديد! ورسالة استغاثة من الأستاذ «جمال» الذى اهتم بمأساة 2700 أسرة شردت بسبب خصخصة عمر أفندى، فضاع حقهم فى المعاشات والإجازات وغيره، ولا يجدون من يستمع إليهم!
ومجموعة من المحاسبين الذين يعملون بإحدى شركات البترول وقع عليهم ضرر من مدير عام الإدارة الذين يعملون بها، متعسفا ضدهم فى حرمانهم من الترقيات، وتوقيع الجزاءات عليهم لمجرد أنهم اكتشفوا فساده، والموضوع قيد الهيئات الرقابية، ولا حياة لمن تنادى!
يا سادة.. أنا لست جهة تحقيق ولا جهة نيابية، لكننى مجرد قلم توجه إليه هؤلاء ممن طفح الكيل بهم ولا يجدون العدالة فى وطن قام بثورتين من أجل العدالة الاجتماعية!
ربما يكون من بينهم من هو مظلوم بحق.. وربما يكون بينهم من هو مُدعٍ.. وربما يكون بينهم من رأى ولا يمتلك الأدلة.. ولكن فى النهاية.. رسائلهم وصلتنى ورجونى أن أكون صوتهم، وها أنا اليوم أؤدى الأمانة إلى المسئولين بالدولة إن كانوا أهلها.. فأنا لست الجهة المعنية بالكشف عن الحقيقة لكنى مجرد ساعى بريد!
الواضح من الشكاوى أن هناك تخبطاً بين المواطنين عن أى باب يطرقونه.. فهناك أكثر من جهة رقابية معنية بالفساد، ولكن إلى من يذهبون؟ سؤال يُحير الجميع.
رجوعا إلى التجربة السنغافورية الأكثر نجاحا فى مكافحة الفساد، حيث سياسة الوقاية من الفساد فى هذه الدولة كانت الأكثر فاعلية.. بالإضافة إلى التوعية وتأمين الضبط الاجتماعى بوسائله المختلفة، عملت تلك الدولة على سن عدة تدابير للحد من الفساد منها:
(الفصل بين الوزارات وإدارة التنفيذ، حيث يتولى التنفيذ فى الغالب هيئات ومؤسسات منشأة بقانون، ومن شأن ذلك تفريغ الوزارة من سلطة التنفيذ وإزالة سبب ما يمكن أن يترتب عليه من فساد..
وتبسيط الإجراءات الإدارية بالحد من المستندات المطلوبة للحصول على الخدمة مع وضع مدونة إجراءات إدارية واضحة.. أيضا، تفادى المنطقة الرمادية فى سلطة الموظف العام بالتضييق من سلطته التقديرية بوضع معايير دقيقة يستند عليها فى أدائه لعمله، لأن التوسع فى السلطة التقديرية للموظف العام موجب من موجبات الفساد وسبب من أسباب إضعاف الرقابة الفعالة على عمله.. تركيز الاختصاص فى جهة معينة من أجل تركيز المسئولية.. الفحص المسبق للحالة الاجتماعية للأفراد قبل التوظيف، وإمكانية تدخل الهيئة العامة لمكافحة الفساد كتدبير وقائى لمنع موظف ما من تولى منصب قيادى أو عمل سياسى بسبب شبهات سابقة بالفساد).
وهكذا أثبتت التجربة أن الوقاية خير من العلاج..
يا سادة أطلقوا أيدى الجهات الحسابية المغلولة داخل مؤسسات الدولة.. فهناك إدارات للمراجعة الداخلية بكل الهيئات الحكومية لا تستطيع أن تفتح التحقيق مع أى من الموظفين إلا بموافقة رئيس المؤسسة.. وماذا لو كان رئيس المؤسسة نفسه فاسدا؟ وماذا لو كان يريد الإطاحة بموظف ليس على هواه فيستغل تلك الإدارة للإيقاع به؟ أو يريد الانحياز لموظف بعينه فيرفض التحقيق معه؟ وماذا عن الإدارات القانونية التى يتبع أفرادها رؤساء المؤسسات والشركات.. فيتم التدليس على القضايا فيها بموجب المنح أو المنع؟!
يا سادة دعونا ننظر لمسألة الفساد نظرة أكثر واقعية.. دعونا ننطلق من حيث انتهى الآخرون.. دعونا نضع القوانين ونطبقها على الجميع على حد سواء.
أتقدم بالشكر للسادة أعضاء هيئة الرقابة الإدارية على وجه التحديد لاهتمامهم بمقالى الأسبوع الماضى وإصرارهم على توضيح مواقفهم المحترمة لى.
وها أنا اليوم أضع بين أيديكم أصوات من لجأوا إلىّ.. علهم يستطيعون باهتمامهم والتحقيق فى شكواهم فتح طاقة من النور فى نفوس هؤلاء ممن عشش اليأس بين ضلوعهم طويلا.