فى مفارقة تاريخية ممتدة لأكثر من ألف عام، كانت تركيا مركز التجميع الأول لمقاتلى الحروب الصليبية، صوب المشرق العربى والإسلامى.. تركيا وقت الحملات الصليبية كان اسمها «الدولة البيزنطية»، وهى آخر معاقل المسيحيين فى الشرق التى تُحكم تحت اسم البابا، لذلك كانت الحاضنة الأولى التى يتجمع فيها المقاتلون الصليبيون القادمون من أوروبا فى عصورها الوسطى، باعتبارها أقرب دولة، قرباً من الشرق الإسلامى، نحو تحقيق غاياتهم والجهاد تحت اسم «الصليب» وتحرير بيت المقدس من يد المسلمين..!
بعد أكثر من ألف عام، تعود تركيا، فى مشهد مماثل، بمسمى متناقض وظروف مغايرة تماماً على ما كانت عليه قبل أكثر من 10 قرون. وتحولت فيها من مركز تجميع المقاتلين تحت اسم «الصليب»، إلى مركز لتجميع المقاتلين تحت رايات «داعش» السوداء، المرفوعة هذه المرة لنصرة «الإسلام»..!
المفارقة يبدو أنها ضاحكة.. لكن لا يمكن أن نغض الطرف عنها الآن، أمام وقائع ثابتة وتقارير أمنية، تحدثت عن الدور الذى لعبته الأراضى التركية فى تكوين تنظيم «داعش»، بعد أن تجمعت رغبة سياسية لدى الحزب الحاكم فى تركيا، العدالة والتنمية، تحت قيادة طيب أردوغان فى أن تلعب دوراً محورياً فى الشرق العربى المترهل.
كانت الفرصة سانحة عبر سوريا التى خرجت فيها -بعد ثورات الربيع العربى فى تونس ومصر وليبيا- أصوات ثورية تطالب بسقوط بشار الأسد ونظامه، وأمام قمع النظام لها، بدأت الثورة فى سوريا تتسلح وفتح الباب للجهاد واستقدام مقاتلين، اتخذوا من تركيا نقطة انطلاق، ومن هنا بدأت «داعش» تتكون.
صوت نداء «الجهاد» الرنان بدأ يضرب، وهناك متعطشون للقتل سواء لعقيدة أو حتى رغبة فى التغيير وخوض مغامرة «الجهاد والنكاح»، بدأ المقاتلون من أوروبا وفى بلاد المشرق تلبى النداء، وكانت الحدود التركية السورية المركز الذى تجمع فيه هؤلاء للانطلاق نحو تكوين «داعش» التى كانت خليطاً من مقاتلين عرب وأجانب، سواء أوروبيين أو دول الشرق الأدنى الإسلامية فى آسيا.
ومع تحقيق «داعش» انتصارات على الأرض، بعد أن تغولت فى العراق، وسيطرت على ما يزيد على ثلث مساحته، وبدأت تتمدد فى سوريا، بل بدأ التنظيم يعلن عن نفسه كدولة» إسلامية فى العراق والشام»، ظهرت حاجة التنظيم لمقاتلين جدد، مع تمدد الطموح والمواجهات ولم تعد تستطيع العناصر التى تم استجلابها من المقاتلين الأجانب فى البداية وكانت محل ثقة قادرة وحدها علي فرض كلمتها على الأرض.
ولكن حاجة التنظيم لمقاتلين جدد، وقف أمامها حائل أن العديد من الدول، بدأت تشعر بخطر «داعش» على الأرض والبدء فى تكوين تحالف دولى يضع حداً لتنامى التنظيم، كما أن التنظيم بدأ يدخل فى مواجهات أخرى لا تقتصر على الجيش السورى والعراقى، بل امتدت لأقرانه من التنظيمات الجهادية الأخرى مثل تنظيم جبهة النصرة (القاعدة فى بلاد الشام والرافدين) ومقاتلى الجيش الحر، بالإضافة إلى أن عناصر من التنظيم بدأت تعود لبلادها كما فى مصر لتنفذ عمليات إرهابية بها.
فتح الأعين على تنظيم «داعش» فى العالم، دفعت قادته إلى تشديد الإجراءات الأمنية فى اختيار المقاتلين الجدد، وهو ما يظهر فى تعليمات صدرت مؤخراً من التنظيم إلى العناصر الراغبة فى الانضمام إليه تحت مسمى «الاحتياطات الأمنية».
وكان اللافت من هذه التعليمات الجزء الخاص، بالحصول على تصديق من أحد الشيوخ «الكفيل» لأى عنصر يريد أن ينضم للتنظيم، يتم تزكيته، وذلك لضمان عدم وجود «اندساس» أمنى بين العناصر المنضمة.
وجاء نص تعليمات داعش للمنضمين الجدد، «يجب على من يرغب فى الانضمام للتنظيم الحصول على تصديق من أحد المشايخ المعروفين أو قادة التيار الأصولى فى كل من مصر أو الأردن أو الخليج أو بريطانيا، ومن الأفضل الحصول على أكثر من تزكية، لضمان الوصول الآمن إلى الداخل السورى بعيدًا عن التدقيقات الأمنية».
وتكشف هذه التعليمات أن لتنظيم «داعش» عدد من الشيوخ «الثقات» الذين يتعاملون مع التنظيم فى البلاد المذكورة، وعلى رأسها مصر بالإضافة إلى لندن التى تعد مركز التجنيد الأوروبى لداعش ومعها برلين فى ألمانيا.
وتكشف تعليمات «داعش»، أنه يسعى للاستفادة من تجارب المتطرفين فى أفغانستان مرورًا بالعراق ووصولاً إلى سوريا، والعمل عليه أكسبها تنوعًا ملحوظاً فى أدوات التحقق من هوية من يريد الانخراط للقتال فى صفوفهم بالساحات السورية أو العراقية.
ولذلك تشترط «داعش» على من يريد الالتحاق بصفوفها من المهاجرين الجدد وجود «تزكية» من رجال دين معتمدين لديها فى المنطقة العربية أو أوروبا، وذلك خوفًا من الاختراق.
ويرجع ذلك كما أكد مصدر قريب من الجماعات المتطرفة أن التنظيم يلجأ للتزكيات للمنضمين الجدد إليه، بسبب عدم وجود مشايخ محليين مرتبطين بتلك التنظيمات، ومن هنا بدأ التفكير فى الاعتماد على شيوخ يعملون بنظام الكفيل للعنصر الجديد، ولا تقبل العناصر الجديدة إلى بعد الحصول على «التزكية» من أحد شيوخ الأصوليين المعتمدين لدى «داعش»، لدرجة أن ذات التعليمات، تقول: «فى حال لم يكن لديك (تزكية) فيجب عليك أن تصبر على اختبارات الإخوة الأمنية، فبعض الجبهات ترفض قبول المهاجرين دون (تزكية)».
وتعطى تعليمات «داعش» الخيط الأول للشيوخ المعتمدين فى مصر والذين يتولون عملية «التزكية» للعناصر الجديدة، ويفسر ذلك أن غالبية العناصر المنضمة للتنظيم من مصر أو دول أخرى كانوا قربين من الشيوخ أو المتطرفين، علماً بأن هناك تنوعاً بين السلفيين ما بين السلفية، سواء السلفية العلمية التى يمثلها «الدعوة السلفية»، ومقرها الرئيسى فى الإسكندرية والتى انبثق عنها حزب النور، وبين السلفية «الجهادية» التى تعد الوعاء التنظيمى الذى خرج منه كل التنظيمات الإرهابية فى مصر والعالم بداية من الجماعة الإسلامية، وصولاً للقاعدة وداعش.
ظلت السلفية الجهادية التى يظهر من اسمها أنها تتبنى فكرة العمل المسلح كطريق للتغيير، مصدر التجنيد الأول للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، كما كانت التزكية الشرعية التى يحصل عليها العضو المنضم حديثاً لهذه التنظيمات من أحد شيوخ السلفية إحدى وسائل التأمين لها.
ويعد عمر عبد الرحمن أبرز قادة الأسماء للسلفية الجهادية فى مصر، وإن كانت أفكار سيد قطب تمثل الرافد الشرعى لهذه المجموعات، ولذلك يطلق البعض خاصة تيار السلفية العلمية المسالمة على الاتجاه الآخر اسم «القطبيين» نسبة لسيد قطب. وكان الحصول على تزكيات من أحد شيوخ السلفية أمر ضرورى، سواء فى حروب أفغانستان وما تلاها من عملية تسفير المهاجرين.
وبعد انحسار موجة الجماعات الإسلامية والجهاد فى مصر فى نهاية التسعينيات من القرن الماضى، بدأ يظهر عدد آخر من شيوخ السلفية الجهادية الذين برز اسمهم فى عدد من قضايا التنظيمات المتطرفة فى بداية الألفية مثل الشيخ نشأت أحمد والشيخ فوزى السعيد والشيخ عمر عبد العزيز والذين كانوا يخطبون فى مساجد القاهرة سواء فى غمرة أو مدينة نصر أو مسجد المعز بالزيتون.
واتهم هؤلاء الشيوخ فى قضايا تنظيمية مثل قضية تنظيم الوعد أو جند الإسلام والذين حوكموا أمام القضاء المصرى فى حدود عامى 2002 – 2000.
كما أن التنظيمات التى ظهرت ونفذت عمليات إرهابية فى مصر فى الفترة التى سبقت ثورة 25 يناير ،سواء فى سيناء أو تفجيرات الحسين، أو عبد المنعم رياض كانت الاشتباه يدور أن هذه العناصر تنتمى لفكر السلفية الجهادية.
ولكن عقب ثورة 25 يناير، بدأت تظهر حركة السلفية الجهادية بشكل أقوى على الساحة، بعد أن جذبت أفكارهم مجموعات من السلفية العلمية، كما أن بعضها بدأ له الخروج للعلن، خاصة أن حركة «حازمون» المنسوبة إلى حازم صلاج أبو إسماعيل أو الدعوية مثل الشيخ أبو إسحق الحوينى ونجله، والذى بدأ التأثر به كشيخ له اتجاه مختلف عن باقى شيوخ السلفية المعروفين مثل محمد حسان أو حسين يعقوب، أو حتى قيادات الدعوة السلفية مثل ياسر برهامى، وإسماعيل المقدم الذين يتصدون ضد محاولات العنف حتى الآن.
وإن كان هناك التباس فى موقف الشيخ الحوينى، فى علاقته بالتنظيمات المتطرفة المقاتلة، فإن الشيخ محمد عبد المقصود، يعد من تبنى فكرة السلفية الجهادية بشكل واضح وظهر ذلك عقب ثورة 30 يونيو 2013. وكان الشيخ عبد المقصود رأس الحربة فى الدفاع عن نظام الإخوان بعد أن ظهر فى اعتصام رابعة، وحرض على العنف بشكل صريح.
وكان الشيخ عبد المقصود أحد العناصر المهمة التى كان يعتمد عليها خيرت الشاطر نائب مرشد الإخوان فى عملية احتواء السلفيين، أو بمعنى أدق العمل على إحداث انشقاق داخل السلفية العلمية وحزب النور، وهو ما تمخض عنه إنشاء حزب الأصالة السلفى الجهادى.
ولكن بعد فض رابعة، هرب الشيخ محمد عبد المقصود من مصر واستقر به الوضع فى مدينة إسطنبولبتركيا، وهناك بدأ علاقته بداعش باعتباره «الكفيل» للعناصر الجديدة المنضمة للتنظيم، وبخاصة القادمة من مصر، على أساس أنه مصدر ثقة بالنسبة لها كما أنه متصل بشيوخ آخرين فى مصر يستطيع أن يستفسر منهم عن العناصر الجديدة المنضمة للتنظيم.
وبجانب محمد عبد المقصود، يوجد رفاعى طه، والذى يعد من أخطر قادة الجماعة الإسلامية، لدرجة أنه الوحيد من قادة الجماعة الذى رفض مبادرات وقف العنف التى أطلقتها الجماعة فى بداية الألفية، واتهم طه بأنه المخطط لعملية مذبحة الأقصر فى «وادى الملوك» عام 1997، كما اتهم بمحاولة اغتيال الرئيس المخلوع حسنى مبارك فى أديس أبابا عام 1995.
وطه من مواليد محافظة أسوان وانضم للجماعة الإسلامية فى أواخر السبعينيات من القرن العشرين، أثناء دراسته بكلية التجارة جامعة أسيوط، لكنه سافر إلى أفغانستان مع المجموعات الأولى فى منتصف الثمانينيات.
ورغم أن قيادات الجماعة الإسلامية، رفضت الانضمام إلى تنظيم القاعدة مع أسامة بن لادن وأيمن االظواهرى فى عام 1998، إلا أن رفاعى طه شذ عن القاعدة وكان الضلع الثالث فى تنظيم القاعدة. بل إن لطه دوراً آخر، لأنه يعد أستاذ أبو مصعب الزرقاوى (الأب الروحى لتنظيم داعش) وأستاذ أبو بكر البغدادى.
ولكن رفاعى طه قبض عليه أثناء زيارته إلى سوريا فى عام 2005، واكتشف فيها رغم أنه كان يحمل جواز سفر سودانياً مزوراً، واحتجز فترة فى سوريا التى سلمته لمصر بعدها وظل فى السجون المصرية نتيجة إدانته فى عدة قضايا إرهابية وكان صادراً بحقه حكم بالإعدام فى قضية العائدون من أفغانستان». ولكن بعد تولى محمد مرسى الحكم صدر قرار عفو عن رفاعى طه ضمن المجموعات الإرهابية التى كانت عليها أحكام ولذلك عقب 30 ثورة يونيو ، هرب طه من مصر واتجه إلى تركيا، متنقلاُ بين الحدود مع سوريا، ومن هنا يأتى دوره فى عملية التنسيق لعلاقته التاريخية بأبى مصعب الزرقاوى، كما أن طه يعتقد أن له دوراً مهماً فى عملية إعادة عناصر داعش مرة أخرى لمصر، وهو ما كشفت عنه التحقيقات لعدد من العناصر التى سافرت من سوريا وعادت مرة أخرى لتنفيذ عمليات إرهابية بعد 30 يونيو.