وزير الهجرة تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    محافظ الغربية يتابع استعدادات المركز التكنولوجي لاستقبال طلبات التصالح في مخالفات البناء    حماس: مصممون على اتفاق ينهي العدوان ووفد الحركة قد سلم الوسطاء ردنا    جوميز يمنح لاعبي الزمالك راحة غدا بعد الخسارة من سموحة    ضبط 550 بطاقة ذكية لصرف السلع المدعمة بمخزن في مطروح    «ابعتها لحبايبك».. أفضل رسائل التهنئة ب عيد شم النسيم 2024    فيديو.. محمد عبده يبكي خلال حديثه عن إصابته بالسرطان: هذا من محبة الله    الصحة: 2500 سيارة إسعاف منتشرة بالمتنزهات والطرق في شم النسيم    الوزير الفضلي يتفقّد مشاريع منظومة "البيئة" في الشرقية ويلتقي عددًا من المواطنين بالمنطقة    .تنسيق الأدوار القذرة .. قوات عباس تقتل المقاوم المطارد أحمد أبو الفول والصهاينة يقتحمون طولكرم وييغتالون 4 مقاومين    «جالانت» يحث «نتنياهو» بقبول صفقة التبادل ويصفها ب«الجيدة» (تفاصيل)    10 مايو.. انطلاق ملتقى الإسكندرية الأول للسرد العربي بمركز الإبداع    من شريهان إلى محمد عبده.. رحلة 8 فنانين حاربوا السرطان (تقرير)    نجل الطبلاوي: والدي كان مدرسة فريدة في تلاوة القرآن الكريم    وزير السياحة يستعرض مبادرات دعم القطاع    "الصحة" تشارك بالتأمين الطبى لعيد القيامة المجيد بكنائس الطور وشرم الشيخ    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    والده مات بسببها منذ 10 سنوات.. خلافات على أرض زراعية تنهي حياة شاب في المنوفية    الإسكان: إصدار 4 آلاف قرار وزاري لتخصيص قطع أراضي في المدن الجديدة    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    السلطات الإسرائيلية تداهم مقرا لقناة الجزيرة فى القدس المحتلة بعد قرار وقف عملها    الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض عقوبات على موقع صوت أوروبا لبثه دعاية مؤيدة لروسيا    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    الهلال يطلب التتويج بالدوري السعودي في ملعب المملكة أرينا    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    طريقة عمل الميني بيتزا في المنزل بعجينة هشة وطرية    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    تامر حبيب يعلن عن تعاون جديد مع منة شلبي    التحية لأهالى سيناء    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    «أنا أهم من طه حسين».. يوسف زيدان يوضح تفاصيل حديثه عن عميد الأدب العربي    "صحة المنوفية" تتابع انتظام العمل وانتشار الفرق الطبية لتأمين الكنائس    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    وزارة العمل تنظم ندوة لنشر تقافة الصحة المهنية بين العاملين ب"إسكان المنيا الجديدة"    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عادل حمودة يكتب : عدلى منصور.. الرئيس الذى لم تُفقده السلطة عقله!
نشر في الفجر يوم 07 - 06 - 2014

■ طالبته بإعادة تنظيم مؤسسة الرئاسة لتستعيد مكانتها.. لكنه رفض قائلا: أنا رئيس مؤقت.. فقلت له: الرئيس رئيس حتى لو حكم نصف ساعة
■ كان يقرأ عشرات التقارير يوميا.. تناقصت ساعات يومه.. تزايدت ساعات عمله.. ولم يصدر قراراً يتعارض مع ضمير القاضى
■ عندما تسلم الحكم لم يجد من يرسل له بطاقة تهنئة.. بل تسلم رسائل تهديد بالقتل
■ منصور قال لنا: لن أترشح للرئاسة.. وطلب منا مدير مكتبه أن نشطبها فربما جدت ظروف تجعله يعيد النظر ويترشح.. لكنه كان عند كلمته
■ مخابرات الغرب تستعد لتسخين الملفات العالقة مثل النهضة مع أثيوبيا.. ومحاكمة صحفيى الجزيرة.. ومتابعة عناصر حزب الله وعملاء إيران فى القاهرة

الهدف وضع السيسى فى حالة حصار.. وهى حالة قد تصيبه بالغضب فيصدر قرارات استثنائية تؤدى إلى انتقاده ■ رسالة إلى أجهزة المخابرات العالمية: لا تستهينوا بالشعب المصرى فمعدته التى تبتلع الزلط.. تبتلع الغزاة والمؤامرات أيضا
■ طالبت -وما زلت- بتأجيل الرئيس الجديد حلف اليمين شهراً يشكل فيه حكومته
■ خصوم السيسى يخططون لزيادة العمليات الإرهابية فى سيناء حتى يشغلوه عن علاج المشكلة الاقتصادية

مثل نخلة مثمرة فرضت نفسها على الخراب خرج إلينا عدلى منصور.. مثل أمطار خريفية هطلت على أرض شققها الجفاف وضربها العطش حكمنا.. ومثل صانع ساعات سويسرى يعرف قيمة الوقت غادر القصر الرئاسى فى موعده المحدد بالساعة والدقيقة والثانية.. ومثل نبى شفاف يعرف حدود رسالته لم يطمع فى السلطة.. ونجا من إدمانها.

بصراحة مستقيمة وكلمات واضحة قال لمجموعة من رؤساء التحرير التقى بهم فى الكويت: «لن أترشح للرئاسة».. وطالبنا مدير مكتبه أن نشطب هذه الجملة من حواره معنا.. «فربما جدت ظروف تجعله يعيد النظر ويترشح».. لكن.. «سيادة اللواء» نسى أن ما يصدر عن القاضى ليس نثرا وإنما حكم.. ليس ظنا وإنما يقين.

إن علماء النفس وخبراء الثروة يحذرون من إدمان السلطة ولو بجرعات صغيرة.. ولكن عدلى منصور حرم نفسه من شمها.. أو الانغماس فيها.. أو التمتع بها.. فكان مثل زاهد فى ملهى.. وصوفى فى مصنع حرير.. ومتقشف فى مغارة على بابا.

وعادة ما يدخل الرئيس إلى قصر الحكم بطوله وربما لا يحمل معه سوى «فرشاة أسنانه» أو ماكينة حلاقته.. ليجد وطنا مفروشا فى خدمته.. سيارات فارهة.. مطابخ شهية.. وقاعات مترفة بالثريات والأبيسون فيغرق فى هذا النعيم.. لكن.. عدلى منصور دخل القصر ليجده فى حالة يرثى لها.. وعلى جدرانه دماء شهداء قتلهم محمد مرسى.. وبجانبه مدرعات جعلت منه ثكنة عسكرية.. فكيف لا يتعلم الدرس ويسعى إلى الخروج من ذلك الجحيم دون خسائر نفسية أو جنائية.. إنها بالفعل معجزة سماوية قبل أن تكون شخصية.

وأتصور أنه كان فى كل يوم قضاه فى الرئاسة لم يكن ليتردد فى قياس نسبة الحكم فى الدم.. إنها نسبة أخطر من نسبة السكر والحديد والكولسترول فى الدم.. فمن الصعب علاجها لو زادت عن الحد.. ومن الصعب النجاة من شرها لو تمكنت من صاحبها.. ولعل الرجل آمن بالحكمة التى ترصد فقدان نصف عقل من يدخل السلطة ويفقد النصف الآخر عند الخروج منها.. وربما هذه هى المرة الأولى التى يصل فيها شخص إلى السلطة ويخرج منها وهو بكامل قواه العقلية.

لم يكن ذلك سهلا بالطبع.. فالإنسان مجبول على السيطرة.. يسعى إليها قبل أن تسعى إليه.. والنجاة منها تحتاج إلى تدريب يومى.. وتحتاج إلى علاج يومى.. وتحتاج إلى تقليص الشعور بها وليس زيادته.

كان الرجل يعرف أن وجوده مؤقت فاستخدم السلطة فى حدها الأدنى الضرورى.. وحرص على أن تكون خطاباته العامة إلى الأمة قصيرة ومباشرة.. وتتجنب كلمة «أنا».. أما أحاديثه الإعلامية فكانت متواضعة.

طالبته وجها لوجه بإعادة تنظيم مؤسسة الرئاسة لتستعيد مكانتها وتؤدى دورها لكنه رفض قائلا: إنه رئيس مؤقت.. عقده فى الحكم محدد المدة.. حرضته قائلا: «الرئيس رئيس ولو حكم نصف ساعة».. لكنه.. كان أشد ثباتا من أى إغراء ولو جرى تغليفه بالمصلحة العامة.

على أنه لم يهمل فى وظيفته بدعوى «أنه مؤقت».. فقد كان يقرأ عشرات التقارير اليومية التى تأتى إليه من مختلف الجهات.. تناقصت ساعات نومه.. تزايدت ساعات عمله.. لم يصدر قرارا يتعارض مع ضمير القاضى.. لم يقبل مثلا وضع مبارك تحت إقامة جبرية بعد أن أسقطت محكمة النقض كل ما صدر عليه من أحكام وترك القرار لرئيس الحكومة نائب الحاكم العسكرى.

عندما جلست إليه أكثر من مرة.. داخل مصر وخارجها.. تأملته أكثر مما استمعت إليه.. سعيت إلى السباحة تحت جلده أكثر من التفاعل مع ملامح وجهه.. وجدته هادئا مثل النهر.. عميقا مثل الحنان.. صريحا مثل الرياح.. عادلا مثل القديس.. متواضعا مثل ثمرة تمر.. بسيطا مثل الحقيقة.. لكن.. هذه الصفات لا تحمل مفاجأة.. فالقاضى الذى يتربع فوق عرش المحكمة الدستورية يحمل فى عروقه كل هذه الجينات ويجمعها فى كلمة واحدة هى كلمة العدل.

ولابد أن أسجل له قدرته الخارقة على إقامة التوازن بين جمرة الظروف الصعبة التى استلم فيها البلاد وتصرفاته الثلجية التى أدار بها شئونها.. بين مشاعره الداخلية المتفجرة وصفحة المياه الصافية التى ترقرت فى عينيه.

لم يغضب فى وقت كان الغضب فيه رقما قوميا.. لم يبطش وقت أن كان فيه البطش عرفا اجتماعيا.. لم يصرخ فى وقت كان فيه الصراخ نشيدا وطنيا.. لم ينفعل فى وقت كان الانفعال فيه بصمة صوتية.. وموسيقى شعبية.

عندما تسلم الحكم لم يجد من يرسل له بطاقة تهنئة وإنما وجد من يرسل إليه خطابات تهديد بالقتل.. ولم يتلق باقات من الزهور وإنما تلقى سلالاً من القنابل الموقوتة.. ولم تعزف له الموسيقى سيمفونية المجد وإنما عزفت كونشيرتو الانفجارات.

انتقلت حياته فجأة من الهدوء الذى ينشده القاضى فى صومعته إلى الصخب الذى يجده خبير المفرقعات فى عمله.. وبعد أن كان يقرأ سطور القوانين فى الكتب أجبر على قراءة الحزن فى وجوه المصريين.

فى ذلك الوقت كانت مصر مثل سفينة مجنونة تتخاطفها الأمواج.. وتتجاذبها العواصف فى بحر من التناقضات.. والحماقات.. والانقسامات.. كل من نصب نفسه بنفسه قبطانا عليها يريد أن يأخذها فى اتجاه.. واحد يدفع بها ناحية شواطئ التنظيم الدولى للإخوان وواحد يدفع بها ناحية مقر الاتحاد الأوروبى.. واحد يريد أن يزوجها من باراك أوباما ويزفها فى البيت الأبيض وواحد يرى أن رجب طيب أردوغان هو الزوج المناسب لها.. وأن بختشى سرايا التى حكم منها العثمانيون إمبراطوريتهم هى العش الأفضل للزوجية.

واحد يريدها إسلامية وواحد يريدها علمانية.. واحد يريدها إرهابية وواحد يريدها مدنية.. واحد يريدها أن تتكلم التركية وواحد يريدها أن تتعرى بالفرنسية.

أكثر من ذلك.. واحد يريد تفجيرها.. وواحد يريد إصلاحها.. واحد يريد تفكيكها وبيع ألواحها وتصفية ركابها.. وواحد يرسم خريطة جديدة لمسارها.

وعلى ظهر هذه السفينة التى اختلطت عليها الأمور وفقدت رشدها كان على عدلى منصور الرجل الذى فرضت الظروف عليه قيادتها أن يقنع كل من فيها بأن السفينة أهم من البحارة.. فلو غرقت فسيغرقون جميعا معها.

والحق أنه نجا بالسفينة من الغرق.. ونجح فى تحديد المسار الذى يريده أغلب ركابها.. وفى الوقت نفسه وضع قواعد للعمل والطعام والنوم والتعبير والترقى والحماية والرعاية فيما نسميه دستورا.. وترك من يرى فى نفسه القيادة أن يخلفه بعد أن يختاره الركاب بالتصويت المباشر فيما نسميه انتخابات رئاسية.. ولم ينس قبل أن يغادر غرفة القبطان أن يضع القوانين التى ستتيح للركاب وضع تشريعاتهم بأنفسهم فيما نسميه بالانتخابات البرلمانية.

كان الرجل فى موقف لا يحسد عليه.. يريد أن يجتمع مجتمع لا يريد أن يجتمع.. يريد تأسيس دولة عصرية لا تريد فئات فيها سوى الجاهلية.. يريد توحيد وطن لا تريد له جماعات مسلحة أن يتوحد.. لكن.. إيمانه بالله وبالشعب المصرى كان أقوى من كل ما واجه من تحديات مصيرية.. وبثقة فى النفس يصعب توافرها فى شخص ما وسط ما نحن فيه.

وطرحت فكرة أن يؤجل الرئيس المنتخب حلف اليمين الدستورية شهرا يشكل فيه حكومته ويجهز طاقم رئاسته.. كما يحدث فى الولايات المتحدة.. لكن.. عدلى منصور رفض أن يجلس ساعة واحدة رئيسا بلا صلاحيات.. كما أنه يريد العودة إلى بيته ومكتبه فى المحكمة الدستورية.. ربما ليسترد روحه التى شتتتها السلطة التنفيذية.. ربما ليخطف عدة أيام إجازة حرم منها.. ربما ليرمم الجراح السرية التى طرزت صدره.. وهى جراح لو أفرج عنها كفيلة بأن تدور حول الكرة الأرضية ألف مرة.

ولا يحتاج الرجل إلى تقديم كشف حساب فى نهاية مدته.. فقد كان يسدد فواتيره أولاً بأول.. فخرج غير مدين لأحد.. لكننا مدينون له بأكثر من الشكر.. العرفان بجميله.. وتكريمه.. وتخليده.. فقد منح نفسه فرصة للحكم الرشيد لم نعطها له.. وأصر على النجاح فى مهمته رغم وجود من يتآمر عليه.. وكتبنا له رسائل حب وتقدير.. لكننا.. لم نرسلها إليه.

كان من السهل عليه أن يخرج علينا وهو يلقى خطابه الأخير فى صورة المنقذ من الخراب كما يفعل عادة الرؤساء.. كنا سنقبل منه تقمص زعامة عبد الناصر.. أو دهاء السادات.. أو خبرة سوار الذهب.. لكنه.. كما جاء متواضعا انصرف متواضعا.. كما جاء قاضياً انصرف قاضيا.

لقد غامر بحياته لينقذ وطنا من الغرق.. كشف طيور الظلام وهو يعرف أن مخالبها وأنيابها قد تطال رقبته.. ساهم فى نزع الحكم ممن ادعوا أنهم وكلاء الله على الأرض دون أن يخاف على عمره من الاغتيال.. فهو أكثر إيمانا ممن يوزعون صكوك الغفران مع كل قنبلة يفجرونها.. فلكل أجل كتاب.. وإذا جاء أجل الإنسان لا يؤخره ولو ثانية.. كما أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التى تصيبنا ولو كنا فى بروج مشيدة.. أو قصور رئاسية محصنة.. هذا هو اليقين الذى شد قامة الرجل.. وضاعف من عزيمته.

خرج عدلى منصور كما دخل.. «يا مولاى كما خلقتنى».. إلا من ثروة لم يسجلها فى إقرار الذمة المالية.. ثروة ضميره الوطنى.. وليس صحيحا أنه لم يترك خلفه أثرا.. ففى مكاتب الرئاسة ستجد مبادئه وقناعاته.. جاهزة لمن سيأتى بعده.. خالية من المسامير وشحنات البارود وقشور الموز التى وضعت فى طريقه.

ومن تلك المبادئ التى أرساها وجود رئيسين فى السلطة.. خارج السجن.. أحدهما يسلم والآخر يتسلم.. أحدهما ينصرف والآخر يحضر.. وفى النهاية نجد صورة تذكارية تجمعهما معا فى حالة من الصفاء لم نشعر بها من قبل.. صورة يجب أن نعلقها فى صدورنا قبل جدراننا.. لنثبت أن تداول السلطة فى مصر أصبح حقيقة يجب الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها.

سيادة المستشار الجليل عدلى منصور: نحن نحبك.. لقد دخلت قلوبنا ولن تخرج منها.. تركت السكن الرئاسى وسكنت عيوننا.


فرض الإرهاب علينا مسرحية دموية.. كتب حوارها.. وصنع ديكوراتها.. ووضع مؤثرات صوتها.. ووقف فى قلب خشبتها.. أما نحن فأجبرنا على الفرجة عليها بالإكراه.

كان للمسرحية بطل واحد.. نسى أنه واحد مننا.. وتجاهل العيش والملح.. وفرض علينا كابوسا لا نعرف توقيت انفجاره.

تكلم وحده بلغة العنف.. اللغة الوحيدة التى لا نعرف حروفها ولا نحوها ولا صرفها.. إلا فى ملفات تجار السلاح وسماسرة الموت.

لكن.. ما أثار دهشتنا أن من اخترناه ليرعى شئوننا ويحقق الأمن لنا هو الذى كان منتج المسرحية والراعى الرسمى لها.. لقد حول محمد مرسى السلطة الرئاسية إلى سلطة معدنية فرضت الحوار بالبندقية.. ألغت الحدود بين المؤامرة والعدالة.. وخلطت بين الشرعى واللا شرعى.. بين السماوى والإرهابى.. بين الممكن واللا ممكن.. بين المعقول واللامعقول.. فكان مصيره الثورة عليه.. ونقله من الرئاسة إلى الزنزانة.. وهنا جاء الشعب ببطل جديد.. هو عبد الفتاح السيسى.. إنسان سوى مثلنا.. يتكلم بهدوء مثلنا.. ويعرف الله مثلنا.. ويؤمن بقيمة المرأة مثلنا.. ويضع الوطن فى رموش عينيه مثلنا.

على أن البطل الذى خرج من صدر المسرح مطرودا عاد إلى الكواليس مغرورا.. مصرا على أنه ولى أمرنا.. ومربى أولادنا.. وشيخ حارتنا.. وصهرنا.. والرجل الاحتياطى لزوجاتنا.. وبما يرفع من بنادق وما يزرع من قنابل تصور أنه يحدد أعمارنا.. ويقيس طولنا.. ويصدر إلى العالم الآخر تذاكر سفرنا.

لم يناقشه أحد فى مشاعره.. هل هو سعيد بما يفعل؟.. هل هدم بيوتنا يعمر بيتك؟.. هل قتل عشرات الأبرياء يطيل عمرك؟.. لكنه.. لم يستوعب ما يفعل.. موتنا موت له.. وخسارتنا لا تقل عن خسارته.. فلو فشلنا فى التعادل فى الحياة فلن نفشل فى التعادل فى الموت.. هذا قانون الإرهاب الذى وضعه بنفسه.. فلا الإرهاب وصل إلى سلطة ولا البندقية صنعت رئاسة.

كل ما يحلم به ذلك البطل الملوث بالدماء والمغطى بالعرق والمغسول عقله وهم.. لكنه.. لا يكتشف ذلك إلا بعد فوات الأوان.

مشاعره تنتشى بالثأر.. بالانتقام.. بالغدر.. بالتآمر على حياتنا بطريقة عشوائية.. والتآمر على حياة الرجل الذى خلصنا من الفاشية الدينية.. وفوضناه لمواجهة العمليات الإرهابية.. وطالبناه عبر صناديق الانتخابات الرئاسية بأن يعيد إلينا الحياة المترفة.

لقد منع نظام مبارك الجماعات المسلحة من الوصول إلى السلطة فكان ذلك كفيلا بأن يكون هدفا لها.. دبروا إحدى عشرة محاولة لاغتياله.. مرة بتلغيم شبكة المجارى تحت مسار موكبه.. ومرة بتلغيم مطار سيدى برانى انتظارا لهبوط طائرته.. مرة فى أديس أبابا بطلقات تدمير الدروع.. ومرات أخرى متنوعة.

فلو كان منعهم من الوصول إلى الحكم جعلهم يدبرون كل هذه المحاولات فما الذى سيفعلونه مع السيسى الذى نزع منهم الحكم بعد الغرق فى نعيمه وحرمهم من الحلم فى استرداده بعد أن تشارك الشعب والسلطة فى كراهيتهما.. ربما لأول مرة فى تاريخهم.

لابد أنهم لن يناموا الليل ولن يهنأ لهم بال ولن يخمد لهم جفن والسيسى يقود مصر نحو النور والتنوير كاشفا العتمة التى فرضوها علينا.

ولو كان مبارك قد وجد من العالم الخارجى من يسانده فى مواجهة تلك الجماعات فإن السيسى يجد عالما مختلفا يتضامن معها ويساعدها ويكره وجوده بعد أن دمر مخططاته وثقب غروره وحول مؤامراته إلى عروس من بلاستيك يسهل تفريغ الهواء منها.

لقد كشف أحد التقارير الرسمية الأمريكية أن حجم الأموال التى تلقاها الإخوان فى الثلاث سنوات الماضية وصل إلى 23 مليار دولار.. أنفقوا منها نحو 9 مليارات على العمليات الإرهابية.. واحتفظوا بالباقى لهم من باب السمسرة.

لكنهم.. مستعدون لإنفاق ما جمعوه وما بقى فى حوزتهم من أجل هدف واحد.. قتل السيسى.. أو إشعال الثورة ضده.

إما الاغتيال الجسدى.. أو الاغتيال المعنوى.. إما اغتياله.. أو إفشاله.

والمؤكد أن محاولات اغتياله التى كشف عنها وأعلنت على الملأ قيدت من حركته وحرمته من اللقاءات الجماهيرية فى حملته الانتخابية.. أكثر من ذلك.. دفعت أموالاً لا حصر لها لكى تقنع أعدادا من المصريين بعدم النزول إلى مقار الانتخابات.. بهدف الإيحاء بأن حشود 30 يونيو تفرقت وتفتتت وتشرذمت.. وهى بالقطع ضربة مؤثرة فى الرجل الذى استدعاه المصريون ليقود مستقبلهم.. كما كشفت نتيجة الانتخابات عن أعداد غير مسبوقة من الأصوات الباطلة.. وهى غالبا أصوات السلفيين الذين لا يتبعون شيوخهم.. بجانب أصوات إخوانية نجحت فى تجنيد جماعات شبابية غاضبة وإقناعهم بأن ما يجرى مسرحية لا يجوز المشاركة فيها.

وتعكس هذه الأصوات أزمة فى الوعى الوطنى بسبب غياب دروس التربية القومية وخطاب التوجهات الدينية الصحيحة.. فنحن نتلقى الفتوى من شيوخ مغرضين.. ونتلقى تعاليم الوطنية من شخصيات جاهلة بالوطنية.. ولكن.. مع فراغ العقول قبل الضمائر يقع المئات فى المحظور.

وأهم ما يسعى إليه الإخوان أن يثبتوا أن السيسى سيفشل فى إدارة شئون البلاد مثله مثل سلفه محمد مرسى.. كل ما يحلمون به أن يردوا الاعتبار لرئيسهم الخارج من تنظيمهم.. ليؤكدوا أن المشكلة ليست فيهم وإنما فى حجم المتاعب الصعبة التى يستحيل حلها.

سيقطعون الكهرباء عمدا لتزيد المشكلة.. وسيفتعلون طوابير أمام محطات الوقود ولو لبضع ساعات.. وسيضاربون على العملات الصعبة لتقل قيمة الجنيه أمامها بما يزيد أسعار المواد الغذائية المستوردة من الخارج.. وسيضاعفون من حجم التحريض على الوقفات الاحتجاجية.. سيزيدون من عملياتهم الإرهابية.. وسيمولون عمليات أخرى إجرامية.

وهناك بالقطع قوى ستقف بجانبهم ليس من باب المشاركة وإنما من باب المصلحة.. إن هناك مجموعة من رجال الأعمال تخشى من تراجع مكاسبها فى ظل الحكم الجديد.. وربما كان ما جرى فى البورصة نوعا من الاستقبال السيئ للرئيس المنتخب قبل إعلان النتيجة رسميا.. لقد خسرت البورصة فى أربعة أيام 37 مليار جنيه وصرخ صغار المستثمرين وأجبرت الحكومة على التراجع عن قانون لم تكن قد أصدرته بعد.

وفى ظل بيئة سياسية وإعلامية معادية فى الخارج يجرى تضخيم الفأر ليصبح فيلا.. والخطأ فى الداخل يصبح خطيئة فى العالم.. فلم يمر حادث واحد وقع فى مصر دون تربص.. «عدوك يتمنى لك الغلط».. فعندما لم تجد بعثة الاتحاد الأوروبى خطأ يذكر فى الانتخابات الرئاسية تركت مهمتها الرقابية وراحت تنتقد أحكام القضاء وحرية التعبير والتحرش بالنساء.

وحسب ما سمعت فى عدة ندوات عقدت فى مراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية والبريطانية فإن هناك إجماعا من كل الخبراء بأن عودة الإخوان إلى الحياة السياسية المصرية خرافة لن تصبح حقيقة.. وبفشلهم فى إدارة شئون البلاد جروا معهم مؤسسات صناعة السياسة فى الغرب إلى نفس الهاوية.

حسب نفس المصدر أعطى الغرب الإخوان مصداقية أكبر من طاقتهم.. ومنحوهم فرصة تتجاوز خبرتهم.. وراهنوا على شعبية هشة تفتتت بسرعة غير متوقعة.. وتبخرت عند أول ارتفاع للحرارة فى شهرى يونيو ويوليو.

ويعترف رجال مخابرات تحدثوا فى تلك الندوات بأنهم فشلوا هم أيضا فى أن تلقى مصر مصير العراق وليبيا والسودان واليمن.

لم تنجح خططهم التى وضعوها لتقسيم المصريين بين مسلمين وعلمانيين.. وتقسيم المسلمين بين شيعة وسنة.

ولم يعجبهم اصطفاف الأقباط وطنيا إلى جانب المسلمين وغضبوا من عدم استقوائهم بالغرب.. أو استعانتهم به بدعوى التمييز والاضطهاد.. إن إقباط مصر يستحقون حسب اقتراح الدكتور مصطفى الفقى جائزة نوبل للسلام.. فحرصهم على دم المسلمين أكثر من جدران الكنائس المعتدى عليها نوع من الرقى لم تصل إليه جماعة وطنية من قبل.

وصدمت الولايات المتحدة من فشلها فى تحريض ضباط فى الجيش على الوقوف أمام تيار يونيو.. تصورت أنهم أصدقاء لها.. لكنهم رفضوا حتى التحدث إليها.

واشتدت حدة الصدمة عندما اتخذت قيادات الشرطة نفس مواقف ضباط الجيش.

كل ذلك أثبت للغرب أن تيار الإسلام السياسى حليف ضعيف وغير قادر على تنفيذ ما يعد به.

لكن.. لا يعنى فقدان الثقة فيه أن الغرب لن يكف عن دعمه.. فربما وجد إلى جانب العظم لحما يؤكل.

وفى الوقت نفسه وضع الغرب خطته لمواجهة السيسى خاصة أن الغرب تصور أنه عبد الناصر جديد.. وقد سألت السيسى عن ذلك فقال: إن عبد الناصر قيادة تاريخية يصعب تكرارها.. ولكن.. لكل عصر ظروفه ورجاله.

لكن.. عبد الناصر بالنسبة للغرب ليس شخصا تتجسد روحه من جديد فى جسد السيسى وإنما عبد الناصر فكرة ونموذج ومشروع وطنى يدافع عن الإنتاج المحلى والاستقلال السياسى وهو ما يقاومه الغرب الذى يعانى ضعفا اقتصاديا فى مواجهة الصين والنمور الأسيوية الأخرى.. الغرب يريد مصر سوقا تابعة لتصريف منتجاته وهذا كل ما يهمه.

كما أن عبد الناصر المشروع لا الشخص نجح فى تأسيس كتلة عدم الانحياز التى أفقدت الغرب سيطرتها على كثير من المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة بفعل لعبة التصويت.. لقد قيدت تلك الكتلة قدرة الغرب على الحركة أكثر من عشرين سنة.

وربما كان الأهم فى التخوف من إحياء النموذج الناصرى الموقف من القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل.. وهو أمر تغير كثيرا طوال السنوات الطويلة التى أعقبت رحيل عبد الناصر.. فأصبحت هناك معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل.. ولم يصدر من السلطة القائمة فى مصر ما يشير إلى نقضها.. بل ومن سخرية السياسة الإقليمية أن الحدود مع إسرائيل هى أكثر الحدود المصرية هدوءاً.. فالمتاعب تأتى من الحدود الغربية والجنوبية ومساحة الحدود الشرقية مع غزة.. المشكلة أصبحت فى الأهل لا فى الغرباء.

وتسعى المؤسسات السيادية والسياسية الغربية إلى اتخاذ ما تسميه بإجراءات وقاية حتى لا يكون السيسى عدوا لهم.. دون أن يدركوا أن العداء بدأ من جانبهم.. وبصفة مؤقتة.. وقبل أن يضعوا خطة متكاملة ضد السيسى قرروا اللعب على الحبال التالية:

زيادة العمليات العسكرية فى سيناء لإشغال الأجهزة الأمنية والعسكرية بمزيد من المشاكل التى تأخذ من السيسى كثيرا من الوقت المخصص لعلاج المتاعب الاقتصادية والاجتماعية.

وخطورة مثل هذا التهديد أنه يكشف عن أن التنظيمات التى تصف نفسها بالجهادية هى تحت سيطرة أجهزة المخابرات الغربية.. تتحكم فى نشاطها بالتصعيد أو بالتهدئة.

وبسبب الفقر الذى يسمح بتجنيد متطوعين للقيام بعمليات إرهابية يمكن ضخ أموال إضافية لتوريط مزيد من الفقراء فى مثل هذه العمليات.

وتساعد الحدود المفتوحة مع ليبيا والسودان على تهريب ما يحتاجه الإرهاب من أسلحة وذخائر.. كما يمكن تسلل خبراء مدربين للمساعدة فى العمليات الكبرى.. يضاف إلى ذلك وجود مخازن من الأسلحة يمكن الاستعانة بها عند الضرورة.

ولن تتردد مخابرات الغرب فى تسخين الملفات العالقة بين مصر ودول أخرى.. مثل سد النهضة فى إثيوبيا.. ومحاكمة صحفيى الجزيرة.. ومتابعة عناصر حزب الله فى مصر.. وعملاء إيران فى القاهرة.. وغيرها.

وسوف تحرض هذه الأجهزة جماعة الإخوان وحلفاءها فى جميع أنحاء العالم على رفع قضايا ضد السيسى وبعض معاونيه فى محاكم دولية.. إن مثل هذه القضايا لن تصل إلى نتيجة حاسمة.. لكنها مفيدة فى التشويه على السيسى وإشغاله بأمور بعيدة عن خططه الطموحة لإنقاذ مصر مما هى فيه.

بل.. وصلت خطة التآمر على السيسى إلى حد ترتيب قائمة طويلة من الشخصيات السياسية والحكومية والإعلامية الدولية لمقابلته واحدة بعد الأخرى لتضييع وقته فيما لا يفيد.. وإبعاده عن مساره المرسوم.

إن الخطط الداخلية والخارجية تهدف إلى وضع السيسى فى حالة حصار.. وهى حالة قد تصيبه بالغضب فيتخذ من الإجراءات الاستثنائية ما يؤدى إلى انتقاده.. أو قد يبتعد عن المشاكل الرئيسية فيفشل وينقلب الناس عليه.

لكن.. كل هذه الخطط يغيب عنها أهم ما فيها.. ثقة الشعب فى السيسى.. إيمان الناس به.. مساندة الجماهير له.

إن الشعب المصرى حقق فى ثلاث سنوات معجزتين لم تتنبأ بهما أعتى أجهزة المخابرات الغربية.. ثورة يناير.. وثورة يونيو.. لقد خرج الشعب المصرى دون قيادة سياسية أو حزبية وتخلص من نظامين كل منهما أسوأ من الآخر.. نظام يعتمد على الديكتاتورية السياسية.. ونظام يعيش على الفاشية الدينية.. كما أن هذا الشعب العنيد الذى لا يعرف أحد حقيقة معدنه سيضاعف من دعم السيسى وتأييده كلما اشتدت الحرب عليه.

لا تستهينوا بالشعب المصرى.. فمعدته التى تبتلع الزلط تبتلع الغزاة والمؤامرات أيضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.