يُحكى أن (سحار البحر) ذلك الحيوان الخرافى مخيف الشكل، هو من فصيلة بنى البشر، يعيش فى كهفه المسحور على ضفاف النيل.. ولا يخرج من عُزلته إلا فى أشهر الفيضان ليخطف الأطفال والنساء اللواتى يقتربن من النيل، ولا سيّما اللواتى يلبسن الذهب، ويُقال أن ما يدفعه إلى خطف هؤلاء النساء هو حاجته الماسّة إلى الذهب، ليدفع الضرائب الباهظة المفروضة عليه من أسياده! تلك باختصار هى أسطورة سحار البحار التى توارثتها الأجيال فى النوبة طويلا. تُرى من أطلق النفير ليخرج سحار البحار من كهفه المسحور؟ وهل كان لسحار البحار يد فى تعكير صفو أصحاب البشرة السمراء والقلوب البيضاء؟ هل جاء حقا ليختطف أطفالهم وأحلامهم ودقات قلوبهم ويعود بها إلى الظلام؟
هل تحول النوبى الطيب إلى ذلك النوبى الشرس؟ هل ضاقت سعة صدور أهل أسوان الطيبين إلى الدرجة التى دفعتهم فى لحظة غضب مُدبرة إلى قتل جثث أبناء أرضهم السمراء والتمثيل بهم؟ أم أن للقصة ألف وجه وألف سبب وألف مبرر ونتيجة واحدة؟
لم يكن الوقت بالبعيد حين تحمس أهل النوبة للدستور وعبروا عن فرحتهم بالمشاركة فيه بكلمات تغنوا بها فى احتفالية كبيرة بأسوان، لمجرد شعورهم بأنهم ولأول مرة كأصحاب أرض حقيقيين تُذكر حقوقهم فى دستور مصر.. تغنوا وقتها بالنوبى وقالوا: «دستوركى أسكرا نوبا مالهِ ديما» أى «لو سألت على الدستور تجد النوبة جواه»!
فالدستور الجديد يكفل لأهل النوبة تحقيق حلمهم الأعظم وهو حلم «العودة».. فهناك أربع مواد مستحدثة فى الدستور تنص على أن تتكفل الدولة بإعادة توطين النوبيين فى أماكنهم الأصلية خلال العشر سنوات المقبلة بالعودة وهو ما يكفله وينظمه القانون، وتنص أيضا على التنمية فى شامل مصر وأولوية اعطاء ذلك للمحافظات الحدودية مثل «النوبة وسيناء ومرسى مطروح والصعيد»، ومادة خاصة بمراعاة البيئة و»الثقافات الخاصة» والتأكيد أن مصر متعددة الثقافات.
إذن فأهل النوبة ينتمون إلى أرض مصر بقلوبهم وجذورهم وإلى القارة السمراء بلونهم..
إذن فأهل النوبة لم يكن لديهم النية لإحراق مصر ولا لزعزعة استقرارها.. بل كانوا جادين للمشاركة فى بناء مستقبلها؟
من المسئول إذن عن إشعال فتيل الفتنة؟
منذ حوالى 15 عاما قال حجاج أدول الأديب النوبى الرائع فى مؤتمر الأقليات بالحرف الواحد: «لا تخافوا مني، لكن خافوا من أطفالى الذين هم فى الابتدائية!».. كان الرجل بشفافية الأديب وحنكة القارئ يرى أن المُشكلة قادمة.. وها هم أطفال الأمس يحملون السلاح اليوم مثلهم مثل غيرهم من أبناء الوطن.. ها هم ينتقمون لمقتل أربعة منهم بقتل 26 من القتلة، ولا نعلم ماذا ينتظرنا بعد ساعة.
منذ فترة حاولت الحكومة توطين غير النوبيين حول بحيرة النوبة ما سبب غضبة شديدة لدى الشباب النوبى وكان ذلك فى تاريخ 4 سبتمبر عندما هددت حركة «كوتاله» بانفصال النوبة.. بل وشجعهم وقتها الكثير من المتآمرين.
وبعودة لأصل الحكاية التى يدركها البعض ويجهلها الكثير.. نجد أن البداية كانت تشتت المجتمع النوبى ما بين صحراء كوم أمبو وإسنا ونصر النوبة، مع بداية الهجرة الأولى عام 1902 وبناء خزان أسوان بأمر محمد علي، بالاتفاق مع الإنجليز لحجز الفائض من مياه النيل خلفه، فأدى ارتفاع منسوب المياه خلف الخزان إلى غرق نحو 10 قرى، ورغم ذلك تمسك النوبيون بالبقاء.
فى عام 1912 حلت النكبة الثانية بعد «تعلية» الخزان، وارتفع منسوب المياه مجددا لتتكرر المأساة وتغرق قرى أخرى، ويتمسك الأهالى بأراضيهم وتاريخهم وإرث أجدادهم.. وفى عام 1932 يتم «تعلية» الخزان للمرة الثانية وتحل «النكبة الثالثة» وتغرق باقى القُرى، وتبقى فقط القرى الواقعة فى أقصى الجنوب بالقرب من حدود السودان منها أدندان وبلانة وقسطل وأبو سمبل.. ويتمسك النوبيون بالبقاء.
بدأت ورقة المطالب تزداد فى كل مرة يفقد فيها «منكوبوالخزان» أراضيهم وبيوتهم. وأثناء مناقشة مشاكلهم فى مجلس النواب، جاءت القوانين الملكية وقتها لتعويضهم تعويضات «مخزية» ومخيبة للآمال، وأصبح باب الرزق الوحيد لهم، هو العمل فى القاهرة والمحافظات الأخرى بعد غرق أراضيهم الزراعية..
تبع تلك التهجيرات اقتلاع النوبيين من جذورهم حول ضفاف النيل، والإلقاء بهم فى الصحراء وسط مجموعات تحمل السلاح الذى يأتيهم من ليبيا والسودان وشلاتين عبر الحدود، ومع الوقت أصبح الضرب بالنار شيئاً عادياً لديهم.. نال النوبيون من هؤلاء الكثير من الافتراءات والإهانات لأنهم يحملون السلاح والنوبى لا يحمل حتى عصا! بالسلاح هجموا على بيوت النوبيين وسرقوها علنًا، ضربوا الرجال والنساء ولم يعاقبهم أحد، فلا سلطة قوية فى هذه المناطق.. وتبدل الأمر، فمن كانوا يزرعون أرضهم لظروف معينة، بما يكسبونه منهم، اشتروا به السلاح وحملوه ضدهم؟ اعتبروهم غرباء عن البلد! وأهانوهم بألقاب مثل السود والبرابرة.
إذن فقد اضطُر النوبيون لحمل السلاح والتهديد به دفاعاً عن أنفسهم.
الحكاية لم تكن وليدة الأمس ولا أول من أمس.. إنها وليدة أجيال متعاقبة.. ربما لم تزرع الشوك ولكن هاهى تحصده..
لقد تجاهلت الحكومات المتعاقبة والدولة ممثلة فى نظامها طويلا أهل النوبة، وفى الوقت الذى طالب فيه الكثيرون على رأسهم أمريكا وعملاؤها انفصال النوبة عن مصر بدعوى رد حقوق سكانها الأصليين، رفض أهل النوبة وتمسكوا بسمراء النيل لأنها أرضهم والأرض هى الكيان والكرامة لدى هذه القبائل المنتمية بشدة للوطن الأعظم مصر.
قضية النوبة يا سادة كانت تُدار فى الماضى من «جهة سيادية» و»عصابات فساد» منها رجال أعمال منتفعون، وآخرون يقفون وراءهم لتحقيق مصالحهم فوق جثث الغلابة..وهاهى اليوم تُدار من قبل فلول الإخوان وتنظيمهم الدولى الذى استطاع بدعم من أمير قطر الذى زار السودان منذ أقل من شهر داعما بأمواله مسيرة الإخوان التخريبية.. فالإخوان المسلمون لم تعد قضيتهم اليوم هى عودة مرسى ولا شرعيته التى كانوا يهللون لها، ولكن قضيتهم الأساسية هى سقوط مصر وإفشال الدولة حتى يظهر أمام العالم بأسره أن الدولة تنهار وأن أولى الأمر فشلوا فى إدارة الدولة واحتواء أزماتها.
سواء كانت بداية المشكلة هى أفراد عائلة الهلايلة الذين قاموا بقتل أفراد من قرية دابود النوبية؛ ما دفع القبائل فى أسوان للاتحاد ضد الهلايل للأخذ بالثأر.. أو كانت البداية مشادة بين طلاب من قرية دابود النوبية، ومجموعة من بلطجية الغجر (الهلايلة) الذين كانوا يعرفون فى وقت ما بأنهم «بلطجية الداخلية»!
سواء كان السبب هذا أم ذاك.. الأكيد أن ما رأيناه من مشهد الجثث المسجاة فوق العربة الكارو والتمثيل بهم فى الشوارع، بل ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى المصابين.. فكلها أعمال لا ترتقى لمستوى الحدث..إنها أحداث تبدو وكأنها حرب بين طرفين انتُزعت من قلوبهم الرحمة ومن أفئدتهم السماحة.
إنه غضب كامن فى النفوس..وكرة من النار تغلى فى جوف الجميع.
لن يكون الحل بجلسات الصُلح بين طرفى النزاع، ولكن الحل الحقيقى هو لحظة صفاء حقيقية مع النفس ولتبدأ بجلوس كل طرف فى تلك المشكلة مع نفسه أمام مرآة ضميره ليسألها: ماذا يريد لمصر؟ هل يريد لها الاستقرار والمُضى قدما؟ أم يريد لها الهلاك والسقوط فى هوة الإخوان المسلمين من جديد؟.
الحل الحقيقى هو أن تلتفت الدولة لحقوق النوبيين، وتفعيل الدستور لحمايتهم حتى تصفو نفوسهم.. الحل الحقيقى أن ينتبه المحافظ ويعمل على تحويل النوبة إلى منطقة استثمارية جاذبة للعالم.. الحل الحقيقى أن يستيقظ وزير الداخلية ويسارع بتطبيق القانون على المعتدى ومحاسبة البلطجى بلا تخاذل ولا تردد، وأن يتعامل بجدية مع ملف التخلص من الضباط الفاسدين بالجهاز الذين يرتزقون من مشاركتهم فى الفساد أو مشاركتهم بالسكوت عنه والتربح من وراء مُحتكريه!
فالغليان لن ينتهى بإطفاء النيران.. والثأر لن يخمد بنزع السلاح.. والمباراة لن تنتهى بصفارة الحكم.
الحل الحقيقى هو أن نفسح فى قلوبنا مكانا للرحمة..وأن نصنع من آمالنا مركبا مجدافاها السماحة والرضا..فهل من مُجيب؟.