تبدو الأجواء داخل قصر الاتحادية، كخلية نحل.. حركة لا تتوقف، وإن علاها شىء من التوتر.. دواوين لا تهدأ.. وإدارات لا تخلو من وجود العنصر البشرى على مدار الساعة.. لا يقطعها إلا توجيهات من رجال المخابرات والأجهزة الأمنية، هنا أو هناك. ففيما تصدرت فضيحة تجسس الإدارة الأمريكية على عدد من زعماء ومواطنى العالم الأحداث.. كان أن دفع هذا الأمر «الأجهزة الأمنية» المصرية لعمل عمليات مسح شامل لكل شبر داخل مؤسسة الرئاسة، إذ أثار هذا الأمر قلقا شديداً داخل القاهرة، خاصة بعد ما تم الاعلان عنه عن أن مصر ضمن الدول التى وقعت فى مصيدة تجسس المخابرات الأمريكية.. سواء أكان هذا فى عهد «المجلس العسكري»، أو فى عهد جماعة الإخوان ورئيسها المعزول مرسى.. وحتى الآن.
وما زاد من حالة الريبة فى وجود اجهزة تنصت بالقصر الرئاسى ما تم الكشف عنه من اختراق الاتصالات الخاصة بوزير الداخلية ورصده قبيل عملية اغتياله.. وهو ما يؤكد عملية اختراق الاتصالات الداخلية للوزارات والمؤسسات الأمنية.
أعمال التجسس التى تبحث عنها أجهزة المخابرات داخل الاتحادية تنقسم إلى نوعين: الأول تنصت على الاتصالات الرئاسية عن طريق شبكة اتصالات الرئاسة، والثانية هى أجهزة تنصت دقيقة وحساسة فى قصر الاتحادية، قد يكون قام بزراعتها أعضاء جماعة الإخوان ورجال خيرت الشاطر فى بعض غرف القصر التى يتم عقد الاجتماعات واللقاءات بها.
وهو أمر مثبت نسبيا خاصة بعد واقعة أجهزة المراقبة والتنصت فى مكتب النائب العام المستشار طلعت عبد الله.
قد لا يجد البعض مبررا للجماعة فى زراعة أجهزة تنصت على الرغم من أن من يشغل هذه المناصب ويعقد هذه اللقاءات هم رجال الجماعة أنفسهم.. ولكن الطبيعة المتشككة للشاطر جعلت زرع تلك الاجهزة «مزدوج الهدف» من التنصت على رجاله لضمان ولائهم فى تلك المرحلة، التى لن تتكرر فى تاريخ مصر، وعلى الشخصيات السياسية والدبلوماسية ورجال القصر من خارج دائر الجماعة.
أجهزة التنصت التى زرعتها الجماعة ليست مقتصرة على مكتب النائب العام والقصر الرئاسى بالاتحادية فقط.. إنما شملت عدداً من المؤسسات المهمة والحساسة فى الدولة.
حالة القلق من وجود اجهزة تنصت دقيقة فى القصر الرئاسى بالاتحادية كانت وراء اتخاذ عدة إجراءات أمنية غير الاعتيادية.. بدأت بالتوقف عن استخدام خطوط الاتصال داخل المؤسسة الرئاسية لحين تأمينها والتأكد من عدم مراقبتها أو تسجيلها.. بالإضافة إلى استخدام أجهزة بحث دقيقة ومتطورة لعمل بحث شامل لأجهزة تنصت قد يكون تم زرعها داخل أروقة القصر الرئاسى بمعرفة المخابرات الامريكية أو حتى من قبل جماعة الإخوان.
كما أصبح قصر الاتحادية منطقة غير آمنة.. فتم نقل جميع اللقاءات المهمة والمغلقة للرئيس المؤقت عدلى منصور.. وأصبحت تجرى فى مكان غير معلوم، وليس فى قصر الاتحادية كما كان يحدث على مدار الشهور الماضية منذ توليه الرئاسة.
وبالطبع كانت اهم اللقاءات التى حرصت الرئاسة على عدم عقدها فى قصر الاتحادية فى ظل ذلك الظرف الاستثنائى من امكانية التنصت هى اللقاءات التى كان الفريق عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع طرفا فيها.. خاصة مع اشتعال الاوضاع السياسة مع جماعة الإخوان من ناحية، ومواد تحصين وزير الدفاع فى الدستور والتساؤل حول ترشحه للرئاسة من عدمه، من ناحية أخرى.
وكان أهمها اللقاء الذى جمع بين عدلى منصور والفريق عبدالفتاح السيسى واللواء محمد ابراهيم وعمرو موسى رئيس لجنة الخمسين وبعض رؤساء اللجان الفرعية السبت الماضى الذى تم بشكل سرى وفى مكان لم يتم الإفصاح عنه وهو الاجتماع الذى تمت فيه مناقشة المواد الخاصة بتحصين وزير الدفاع والمواد الخاصة بالقوات المسلحة فى الدستور الجديد وأيضا الخطة التى ستطبقها قوات الجيش والشرطة فى الفترة بين انتهاء مد فرض الطوارئ وإصدار قانون مكافحة الارهاب لمواجهة عنف الجماعة وأقسم الحضور فيه على عدم التصريح بأى تفاصيل حول مكان وأسباب اللقاء.
بالإضافة إلى التأكد من عدم اختراق أجهزة الكمبيوتر الخاصة بالرئاسة وبالهيئة الاستشارية له والأفراد المساعدين الا أن هذ الامر لم يمثل هاجساً كبيراً لدى المؤسسات الأمنية، خاصة أن النظام المعلوماتى فى الرئاسة لا يرتكز على الحاسبات بقدر ما يعتمد على التقارير والأوراق المكتوبة.
ويوجد أرشيف ضخم بالقصر الرئاسى يحتوى على كل الوثائق والمستندات الرئاسية منذ قيام النظام الجمهورى وحتى الآن .
كما تم تغيير جميع الايميلات الرئاسية التى تخاطب بها المؤسسة الرئاسية الإعلاميين وبعض الجهات الاخرى.
اما فيما يتعلق بخطوط الاتصالات الرئاسية فإنه تم التوقف عن استخدامها بعد فضيحة التجسس الأمريكى كما يتم التأكد من عدم إمكانية التنصت على خطوط الاتصالات الرئاسية المتصلة بسنترال الرئاسة التى يستخدمها الرئيس.
كما أن هناك مخاوف من امتداد عملية التنصت إلى أجهزة الهواتف المحمولة الخاصة بالرئيس عدلى منصور وبعض القيادات فى اجهزة سيادية مهمة.. خاصة أن عملية التنصت على المكالمات لا تخضع لخطوط بعينها وانما تتم عن طريق تتبع ببصمة الصوت والتسجيل لها وليس بالخطوط التليفونية.
وعلى الرغم من انشغال الاجهزة الامنية بتأمين الاتصالات الرئاسية ضد عمليات التجسس الامريكى الا أن الامر ليس مقصوراً على اتصالات الرئاسة فقط لكن عملية التجسس الامريكى امتدت إلى اغلبية الرموز السياسية المصرية خلال تلك المرحلة.
وتم نقل الهيئة الاستشارية كاملة من القصر الرئاسى ليقوم احمد المسلمانى المستشار الاعلامى للرئيس بعقد لقاءاته باطياف المجتمع بمبنى السكرتارية الخاصة برئاسة الجمهورية بأحد المبانى التابعة للحرس الجمهورى وتم ايضا نقل الإدارة الاعلامية كاملة إلى نفس المبنى.. فضلا عن مكتب المتحدث الإعلامى.
وقد أكد السفير ايهاب بدوى المتحدث الرسمى باسم الرئاسة بأنه سيتم التواجد فى هذا المبنى فى الوقت الراهن وخلال المدة القادمة.
كما تم نقل كل العاملين بالقصر لاماكن أخرى لمدة مؤقتة لم يتم تحديدها حتى الآن وبعضهم يمارس عمله من قصر عابدين ولم يتم الابقاء الا على اعداد قليلة جدا من العاملين فى محاولة لتقليل عدد المتواجدين فى القصر الرئاسى لتتمكن اجهزة المخابرات من القيام بعملية مسح شامل للقصور الرئاسية.
وتعتبر الفترة الانتقالية الاولى التى لم يتم استخدام القصور الرئاسية فيها مع حالة التخبط والانفلات الامنى وغياب القيادة جعل تلك القصور هدفا سهلا لعمليات التجسس والتنصت المستقبلية وهو ما يتم مواجهته الآن ويزيد من حالة اليقين بوجود اجهزة تنصت بالقصر الرئاسى وعلى الاتصالات الرئاسية.
تبدو فضيحة التجسس الأمريكية مثل سلسلة تتشابك حلقاتها بإحكام على نحو يستحيل معه كسرها وتحيط بعنق صاحبها لتخنقه، فالفضيحة الأمريكية متعددة الفصول والأجزاء.. وبمرور الوقت يتم الكشف عن معلومة جديدة أو سر آخر يضع أمريكا فى موقف حرج يهدد علاقتها بكل دول العالم.
ففيما انفردت جريدة جارديان البريطانية فى أغسطس الماضى بنشر وثائق برنامج التجسس فى وكالة الأمن القومى الأمريكية التى قام بتسربيها «إدوارد سنودن» الموظف السابق بوكالة الأمن القومى فى فضيحة ضربت مصداقية الولاياتالمتحدة فى مقتل.. كانت هذه الفضيحة قد أخذت أبعادًا جديدة أكثر خطورة بعد أن أشارت «جارديان» إلى أن إحدى الوثائق المسربة أكدت أن وكالة الأمن القومى قامت بالتجسس على رؤساء 35 دولة ، بعد الحصول على أرقام هواتفهم من إحدى إدارات الحكومة الأمريكية.
بحسب هذه الوثيقة السرية فإن وكالة الأمن القومى قد شجعت المسئولين الكبار فى البيت الأبيض، وزارة الخارجية، والبنتاجون على تقديم معلومات عن أرقام هواتف المسئولين الأجانب للوكالة من أجل إخضاعهم للمراقبة. وبحسب الوثيقة فإن المسئولين الأمريكان زودوا الوكالة بأرقام هواتف 200 مسئول أجنبى بما ذلك أرقام هواتف 35 رئيس دولة.
تسببت هذه الوثيقة التى يعود تاريخها إلى عام 2006 فى أزمة دبلوماسية بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وعدد من الدول على رأسها دول الاتحاد الأوروبى، حيث فوجئت الدول الأوروبية بأن حليفهم الأمريكى يتلصص على مكالماتهم الهاتفية، واتهمت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل الولاياتالمتحدة بتسجيل مكالماتها الهاتفية، ما دفع البيت الأبيض إلى إصدار بيان نفى فيه قيام أمريكا بالتجسس على مكالمات المستشارة الألمانية، ولكن البيان الأمريكى لم يساعد فى تهدئة الجانب الألمانى، حيث اشتعل فتيل الغضب ليجتاح الحكومة الألمانية.
وكانت ميركل قد وجهت هذا الاتهام إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بالتجسس عليها عندما شاهدت رقم هاتفها فى إحدى الوثائق الأمريكية. وبحسب هذه الوثيقة فإن الولاياتالمتحدة بدأت فى التجسس على ميركل منذ أكثر من عشر سنوات، فى البداية عندما كانت رئيسة لحزبها ثم عندما أصبحت مستشارة الحكومة الألمانية.
مع وصولها إلى بروكسل لحضور قمة الاتحاد الأوروبى اتهمت «ميركل» الولاياتالمتحدة بخرق الثقة، وأشارت قائلة «نحن فى حاجة إلى الثقة فى حلفائنا وشركائنا، إن التجسس بين الأصدقاء ليس مقبولاً بأى حال من الأحوال، وهذا ينطبق على كل مواطن فى ألمانيا».
لم يقتصر الغضب على ألمانيا فقط.. إنما امتد أيضا إلى فرنسا، وكان أوباما قد اتصل بنظيره الفرنسى فرانسوا هولاند فى بداية هذا الأسبوع بعد التقرير الذى نشرته الصحافة الفرنسية عن قيام وكالة الأمن القومى بالتجسس على 70 مليون مكالمة هاتفية فى فرنسا خلال شهر واحد. كما أعلن وزير الخارجية الإسبانى أن بلاده طالبت الولاياتالمتحدة بتقديم المعلومات اللازمة بشأن عمليات التجسس المزعومة التى قامت بها أمريكا فى إسبانيا وذلك بعد أن نشرت جريدة «إل موندو» الإسبانية أن وكالة الأمن القومى قد تجسست على 60 مليون مكالمة هاتفية فى إسبانيا خلال شهر. ومن جانبها نشرت مجلة «دير شبيجل» الألمانية تقريرًا أشارت فيه إلى أن الوثائق التى تم تسربيها سوف تكشف عن قيام الولاياتالمتحدةالأمريكية بالتجسس على كبار المسئولين بالاتحاد الأوروبى.