لم أقرأ عن الحب منذ فترة، سقط منا هذا المعنى عمداً بعد أن اجتاحتنا السياسة، وسحلتنا جماعة الإخوان خلفها فى حروب بين الحلال والحرام، وانصرفنا جميعاً عما نحب، فلم يعد نقاد السينما يكتبون عنها ولا الشعراء يتغنون بأجمل المعانى،ولا حتى المبدعون يفكرون سوى فى السياسة، تبدل حالنا، فأصبحنا نستيقظ على نشرات الأخبار لمتابعة أخبار المرسى وجماعته، وتصرفاتهما الفظة، وننام على جراح وسحل ودم ومطاردات تحولت لعبادة يومية، أملاً فى أن يحصل كل على حقه المهدور فى زمن جاءت فيه ثورة وجهها حسن وقلبها دموى، لا يتوقف عن شرب دماء الشباب، لتستمر فى خداعهم بأنها ستنتصر لهم يوماً ما! ولكن للأسف، هذا اليوم يبدو سراباً فى صحراء رمالها وجبالها بلون الدم.
لم نعد نملك فى لغة حواراتنا سوى أبشع الألفاظ والإشارات، حتى لغة الخطاب الدينى، نزعنا عنها قدسيتها، فتحولت للغة ركيكة وهابطة، أشبه باللغة التى يستخدمها سائقو الميكروباصات مع بعضهما البعض، وإن كانت لغة السائقين تبدو فى أوقات كثيرة أرقى وأفضل من لغة بعض الدعاة.
الإعلام تحول فجأة لوحش كاسر، ينازع على البقاء، فى غابة يكسوها الجهل والظلام، وينادى وحوشها الظلامية، للفتك به، إما بتلفيق التهم أو بالتهديد والوعيد، أو حتى بإطلاق كلاب مسعورة لنهش لحمه، وهو ما انعكس على لغة الخطاب الإعلامى، من جميع إعلاميى مصر وكتابها، وأنا واحد منهم، لا أنفى عن نفسى هذه التهمة، كلنا تورطنا فى استخدام لغة أشبه بلغة الدعاة، فتجد زميلاً يسب ويلعن فى مقاله، وآخر يصرخ على الهواء، وأخرى تستخدم إيحاءات جنسية، وثانية تدخل فى وصلة ردح وآخر يقدم برنامجه بالحاجب والمؤخرة، لتصبح لغة الإعلام لأول مر ة فى تاريخ مصر مسفة ومخجلة لتنافس لغة الدعاة وخطب الرئيس وأصابعه التى تعبث فى كل اتجاه! ولا تستغربوا إذا وجدتم يوماً ما داعية أو مذيعاً أو سياسياً يسب على الهواء.
ولأن الرئيس يدعى أنه رئيس لكل مصر، فضل أن يحول لغة خطاباته إلى نفس اللغة التى أصبحت تسيطر على المشهد فى مصر، فتستمع لأول مرة من رئيس يتحدث عن أصابع تريد أن تعبث، ومفردات من عينة «إذا مات القرد فماذا سيشتغل القرداتى؟»، و مصطلحات من عينة «جاءهم وجع فى ركبهم»، وغير هذا الكثير مما أضافه الرئيس للغة الخطاب الذى يوجهه لشعبه، هذا بخلاف حركته الشهيرة عندما كان سيادته « يحبرش « فى حضور رئيسة وزراء أستراليا.. وهو ما شجع رئيس الوزراء هشام قنديل، أن يتحفنا ببلاغته، عن فوائد تنظيف المرأة المصرية لحلمات صدرها حتى لا يصاب طفلها الرضيع بالإسهال، أو عندما طلب من الأسرة المصرية أن تضرب الطقم «الكوتونيل»، للتغلب على أزمة انقطاع الكهرباء فى فصل الصيف، ولعله يحضر حالياً خطبة عن فائدة استخدام الكوز فى الشطف بعد قضاء الحاجة، لأن المصريين يهدرون مياه الشرب على تنظيف مؤخراتهم!!
أصبحت المطواة القرن غزال هى أداة النضال، فتجد شيخاً صاحب لحية كثيفة يشهرها فى وجوه كاميرات القنوات الفضائية، مهدداً الإعلاميين بتشريح مؤخراتهم انتقاماً منهم على ما حدث مع أتباعه فى المقطم من قبل بعض الشباب الغاضبين من جماعة الإخوان، والذين عبروا أيضاً عن غضبهم بنفس الأسلوب باستخدام المطواة فى تشريح رءوس ومؤخرات شباب جماعة الإخوان أثناء بروفة الحرب الأهلية التى كانت تدور فى المقطم برعاية مكتب الإرشاد وبعض قوى المعارضة التى تشغل نفسها فقط بإسقاط مرسى دون أن تفكر فى ماذا سيحدث بعد هذا السقوط
أين داود عبدالسيد وخالد يوسف ولميس جابر وخالد النبوى وخالد أبو النجا وكل من انشغل بالثورة المصرية ووقف فى مواجهة الإخوان؟، كلهم تركوا فنهم وإبداعهم الراقى، ففقدنا جزءاً مهماً من هويتنا الإبداعية، فمكان المخرجين خلف كاميراتهم السينمائية، والممثلون أمامها والكتاب على مكاتبهم، ليواصلوا توثيق ما يحدث فى مصر، ولكنهم تركوا كل هذا وانساقوا لحروب كلامية لن تفيد الجيل القادم فى شىء، الجيل القادم سيعرف الحقيقة فقط من خلال ما تبدعون بكاميراتكم وأدائكم وأوراقكم، ولكن حتى الإبداع قتل.
هل سنظل هكذا، بلا روح أو مضمون، نحارب جيوش من الرمال الغبرة؟، أشتاق للكتابة عن الأفلام، عن رواية تأخذنى بعيداً عن الواقع العكر، عن نماذج منتصرة، عن فن حقيقى يواجه كل الظلام الذى ينتشر بسرعة النار فى قلوبنا، لقد مللت كغيرى أحاديث السياسة ومناقشتها وتنظيرها، مللت من الجهل، ومن أصحابه الذين تصدروا المشهد ليصبحوا رموزاً تحكمنا بدون وجه حق، سئمت من زمن أصبح فيه المجتمع نصفين، كافر بتوقيع من أصحاب لحى مزيفة أو خائن للثورة بهتاف شباب شوه العنف أرواحهم.