ما أتعسها ثورة أخرجت مصر من الفساد لتوقعها في الأحقاد! وما أتعس هذا الشعب الذي تقف فيه نخبته ليتاجروا بدماء أبنائه وبآلام مصابيه، فيهدموا حاضره ومستقبله.
أية ثورة هذه وأي ثوار هؤلاء؟
ثوار لا يقدمون لنا سوى الاتهامات والتخوين، والبحث عن الثأر وتصفية الحسابات باسم العدل والقصاص.
ثوار أخرجوا الناس من سجن القهر والقمع بأيدي الناس؛ لا ليحرروهم ويحروروا أنفسهم بل ليوقعوهم في سجن الإحسان عليهم بالحرية والكرامة؟
خاف الناس أصحاب الرأي المخالف، انكمشوا وبقيتُ ومعي فئة من أصحاب الأصوات الضعيفة، نقول لا لخروجنا من الفساد لنقع في الأحقاد أيها الثائرون..
مثلي ضيقوا عليه في العمل، حتى تركه.. لكنني بقيت -بإذن من الله وتوفيقه- ممسكا برأيي وقلمي.
وغيري أُجبِر على أن يصمت خوفا على أهله وذويه ومصد رزقه..
هل هذه هي الحرية التي منحنا إياها الثوار؟ مذمومة حريتكم أيها السادة، ومذموم من تاجروا معكم من الإعلاميين والصحفيين، الذين لم يلتفتوا لهذا البلد، حتى الذين قادوا منهم وثاروا ونادوا بقناة لتحرير العقول، رأيتم بأعينكم ورأينا كيف قاموا بعدها بتحرير الشيكات، وقبضوا الثمن، ثم تركوها وتركوكم تتخبطون وتنازعون على فتات ضاع صاحبه!
بدأتم بالقصاص من مبارك، ثم سقطت أقنعة كثيرة لتبين عن قلوب مريضة، ووجوه عابسة، ليس بعيدا عنها ذلك الشيخ الذي كنت أقدره، حتى وقف خطيبا ليقول بين الجمع في الميدان: "لو لم تأتوا بمبارك من شرم الشيخ سنذهب ونأت به من هناك ونحاكمه في الميدان"!
وقتها تساءلت: أهذا هو الرجل الرقيق ذو الصوت الخفيض، الذي كان يبكي في قناة الناس وهو يكلم الناس عن العفو والتسامح وحاجتنا له؛ لأن لا أحدَ فينا يعلم خاتمته؟ أهذا هو ما تعلمه من رسول الله، التهديد والوعيد للمجلس العسكري لو لم يأتِ بمبارك سيذهب هو وشبابه الثائر ليحقق القصاص منه!؟
ما الذي قواه إلى هذه الدرجة فقسا قلبه، ليطلب القصاص من رجل على فراش المرض، ونسي ما قام عليه دينه من أساس للعفو والرحمة؟ إنه الجمع والكثرة وتهليل الواقفين بميراث من الغل والرغبة في الثأر.. فقلت في نفسي حينها إنه يومٌ كيوم حُنين، وتذكرت قوله تعالى: "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم من الله شيئا"...
وتوقعت أن يُهزم هذا الجمع، لأن ما جمعهم هو "الحقد" الذي حاربه الله وسوله في قلوب المؤمنين يوم الفتح الأكبر حين وقفوا خلف رسول الله منتصرين ينتظرون القصاص ممن شردهم وقتلهم؛ فعفا رسول الله. ليقضي بهذا العفو على الفساد والأحقاد معا.
ماذا أقول في وطن غرّت فيه أوهام القوة ثائريه ومشايخه وكتابه ونخبته؟
أقول لهم ما يخشى غيري قوله: أنتم طلبتم القصاص من مبارك بعد أن وقع أسيرا بينكم، وجعله الله بين أيديكم، وقد بلغ من العمر أرزلة وغاب عنه سلطانه وجاهه، وسقط من فوق ظهر جواده، وكأنه في معركة رفع فيها الراية البيضاء، فلما اطمأنت قلوبكم للنصر واستسلام مَن عاداكم، لم تحسنوا إلى أسيركم، وأسير الله في الأرض، فماذا حصدتم؟ لا شيء غير المزيد من الغل والأحقاد.. ولسوف يأتي يوم يكتب التاريخ الحق فيه أن كثيرا ممن نادوا بالقصاص من مبارك كانوا ذوي قلوب سوداء، أو ذوي مصلحة خاصة، وكان بينهم من يريد أن يصفي حسابا، وأنهم جميعا لم يخدموا مصر، ولم يسعوا لصالحها.
ولو كان بينهم رجل رشيد لا يخشى في الله لومة لائم، لقال إن هناك حلولا أخرى، كان يمكن حتى نَفيَهُ من البلاد هو وزوجته منَّة من شعب مصر الذي ينسى الإساءة، بعد أن مكَّنه الله، ويتذكر أن هذا الرجل رغم جرائمه وتقصيره كرئيس لمصر، وقف يوما كجندي مدافعا عن أرضها، وخاض معركة طابا حتى عادت، فليُنفَي هو وزوجته، وليتحمل ابناه ما فعلا بوالدهما.. وبمصر معه؛ فنعلو بالقيم التي تبني الأوطان، ولكن هيهات وقد بلغ الغل في القلوب الحناجر.
فما أتعس وطنا قام بثورة على الظلم، فبات ظالما لنفسه.
وما أتعس وطنا قام بثورة على رؤوس الفساد؛ ليقع أسيرا في يد شياطين الأحقاد.
أقول هذا، ولا أعلم بماذا سيُحكم على مبارك، الذي مازلت أؤكد رأيي في موقفه أنه كان أسيرا حاكمتموه، ويقيني أن التاريخ سيحاكم هؤلاء الذي وقفوا ضد أن تكون ثورتنا ثورة قيم وأخلاق، وارتفاع بكلمة الحب فوق كلمة الكراهية.
فهل سكت صوت "القصاص القصاص"؟ أبدا
تركوا مبارك، ليعلنوا أنهم سيقتصون من المجلس العسكري بمجرد أن يسلم الحكم، فإذا قلت لهم كفاكم قصاصا، كفاكم أيها الكارهون لأنفسهم ولغيرهم، قالوا هو حق شهداء ماسبيرو ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، ولا يملك العفو عن المجلس العسكري غير أهالي الشهداء؟؟؟؟؟
لتبقى مصر وليبقى 85 مليون مصري تحت رحمة أهالي الشهداء، والمتحدثون الإعلاميون والسياسيون عنهم!
فإذا سألتهم، وماذا لو لم يسلم المجلس العسكري السلطة خشية البطش بهم، والقصاص منهم تماما كما فعلتم مع مبارك؟
يقولون ستكون الثورة الثانية على العسكر، ولو استشهد الآلاف وأصيب الآلاف؟ لا يهم!
أرأيتم، كيف أنها دائرة لا تنتهي من الأحقاد.. يريدون التضحية بآلاف آخرين في سبيل تسجيل موقف ثوري، وتصفيق حاد، وظهور بتاج البطولة فوق خشبة الميدان أو أمام كاميرات الفضائيات..
وهكذا يرددون دائما: "حق الشهداء.. وأهالي الشهداء"؟ حتى سئم الناس كلمة الشهداء، وأخشى أن نصل للدرجة التي يكره فيها الشعب كلمة "أهل الشهداء" الذين يتكلمون عنهم..
أنتم أيها السادة، يا مشايخنا، يا من ظنناكم ورثة رسول الله!، ويا كتابنا وإعلاميينا، وساستنا، بطلبكم القصاص من مبارك كان قصاصكم منه ومن مصر، وأنتم تشهدون ما حدث حين بقينا في نفق الماضي ولم نلتفت للغد..
واليوم تعودون لنا بنفس الحقد والتردي، تريدون القصاص من المجلس العسكي لتكملوا على ما تبقى من مصر.
فمتى تكفوا عن هذه الكلمة التي غرستم بها الكراهية في النفوس، ومن وسط أصواتكم العالية يستطيع أن يحدثنا عن الرحمة والعفو وغدٍ أفضل لمصر وشعبها؟
كفاكم خرابا للعقول والقلوب والضمائر والوطن، فإن تجارتكم هذه أسوأ من الإتجار بالمخدات التي تذهب بالعقول، والدعارة التي تذهب بالشرف، لأنكم تتاجرون في مصير ملايين المصريين البسطاء، وتجارتكم هذه سوف تذهب بالوطن كله للدمار.
أما ما أود أن أقوله لأهالي الشهداء الحقيقيين فهو:
يا أهلنا الذين ضحى أبناؤهم بأواحهم في سبيل مصر وأهلها.. إن شهداءكم في جنة ربهم ينعمون، اتركوا أمر القصاص للملك العدل، وارحموا مصر وأهلها من هكذا تجارة باسمكم ممن لا يعرفون سوى مصالحهم، وليخرج جماعة منكم يقولون بأن أبناءنا في رحاب ربهم، ونحن لن نشترك في جريمة القصاص من مصر وأهلها برفع راية القصاص من أحد.. فتكونوا كبارا في أعين الناس لا تجارا تعبث بهم فئة من أصحاب المصالح..