يتابع الكثيرون في الدول العربية، ومنها مصر بطبيعة الحال، باهتمام بالغ تطورات الأزمة الأوكرانية، التي يعتبرها معظم المتابعين اختبار قوة روسي غربي، سيكون له تأثيره وتبعاته على الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، والمواقف الغربية حيال القضايا العربية، وفي مقدمتها الموقف تجاه الاضطرابات الحاصلة في بعض الدول العربية وما تمارسه الجماعات الدينية من أعمال عنف وإرهاب يعرقل مسيرة الأمن والاستقرار في تلك الدول. الحقيقة الوحيدة شبه المؤكدة في الأزمة الأوكرانية أن حقبة جديدة في العلاقات بين الغرب وروسيا قد بدأت للتو عبر هذه الأزمة ومن خلال تفاعلاتها، لدرجة أن مفهوم "الحرب الباردة" قد عاد من جديد إلى صدارة عناوين الصحف ومقالات الرأي والتحليل السياسي في العالم أجمع. أنا شخصيا لا أعتقد أن هناك عودة للحرب الباردة بممارساتها وأجوائها القديمة، فلا روسيا خليفة الاتحاد السوفيتي السابق تحصر نفسها في الفكر الشيوعي السابق، ولا المعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية يمتلك نظرة الريبة الأيديولوجية ذاتها حيال الدور الروسي في العالم. الأقرب للتصور أن هناك اختبار نوايا يخيم على العلاقات الأمريكية الروسية منذ نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن العشرين، وأن حدود القوة واستخدامها وتوظيفها لم يزل يتبلور عبر سلسلة متوالية من الأزمات في مناطق مختلفة من العالم، ابتداء من إيران ولن ينتهي في أوكرانيا، مرورا بسوريا وأفغانستان ودول الاتحاد السوفيتي السابق وغيرها. الاختلاف في أزمة أوكرانيا أنها تمس عصب روسيا، ولا يمكن مقارنة وضعها بأي ملف آخر لأسباب جيوسياسية وتاريخية وثقافية تضع أوكرانيا في صميم الأمن القومي الروسي، بل هي اختبار لفرضية تتداول غالبا في الدوائر البحثية حول تراجع الدور الروسية وإجبار موسكو على التخلي مكانتها عالميا خلال السنوات الماضية لاسيما عقب إسقاط أنظمة حليفة لها على يد الغرب مثل صدام حسين والقذافي ومحاصرة بشار الأسد وغير ذلك. كما تعتقد شريحة لا بأس بها من الشعب الروسي أن جهود بوتين لبناء شراكة حقيقة مع الغرب لم تحقق النتائج المرجوة حتى الآن، لأن الولاياتالمتحدة لا تريد الاعتراف بدور عالمي روسي يوازي طموحات الكرملين، كما إن بوتين ذاته يؤمن بجدوى الدبلوماسية الخشنة في انتزاع دور روسيا والحفاظ على حقوقها ومصالحها، خصوصا أنه نجح في ذلك خلال المواجهة العسكرية عام 2008 بين روسياوجورجيا، إذ فشل الغرب في الضغط على موسكو كما لم يستطع توقيع أي عقوبات ضدها وقتذاك رغم إعلان غضبه الشديد حيالها. منطق الأمور يشير إلى أن الكلفة الاستراتيجية الناجمة عن التدخل الروسي في أوكرانيا أقل بمراحل من المخاطر المتوقعة التي سوف تواجهها روسيا إذا انضمت أوكرانيا إلى حظيرة الغرب وفق توجهات أطلسية، ومن هنا يمكن تفسير التصميم الروسي في أوكرانيا على خلاف الموقف أزمات أخرى مثل ليبيا وسوريا وغيرهما. يدرك الكرملين من اللحظات الأولى للأزمة الأوكرانية أن المصالح الروسية المهمة قد تأثرت بشكل مباشر، فاتفاق الشراكة الذي جمد الرئيس الأوكراني الأسبق يانوكوفيتش توقيعه في نوفمبر الماضي قد يتم توقيعه الآن، ما يتيح لأوكرانيا السير في طريق الاندماج مع الاتحاد الأوروبي، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة الأوكرانية الجديدة قد تلغي قانون 2010 الذي ينص على أن أوكرانيا دولة محايدة، ومن ثم السعي نحو "خطة عمل عضوية الناتو"، كما أن انتصار القوميين الأوكرانيين يهدد بالتعصب ضد اللغة الروسية، وانفصال الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية عن بطريركية موسكو. المتوقع أن تتحمل منطقة الشرق الأوسط جانب من ضريبة المواجهة الحاصلة في أوكرانيا، فالولاياتالمتحدة قد تميل إلى توجيه صفعة لروسيا عبر البوابة السورية من خلال الإصرار على إطاحة الأسد، سياسيا أو عسكريا، كما يتوقع أن تكون روسيا أقل صدامية في الأزمة السورية تحسبا لردة فعل غربية أكثر غضبا، ولكنها قد تميل إلى محاولة الحفاظ على مستوى التعاون الاستراتيجي مع إيران وأن تكون أكثر تمسكا بإيران كحليف حيوي بعد خسارة الكثير من حلفائها الإقليميين، وان تسعى إلى دعم مصر واستعادة دورها فيها كحليف تاريخي. من بين النتائج المتوقعة لأزمة أوكرانيا، أن تصبح روسيا أكثر نشاطا في منطقة الشرق الأوسط، وأن تتبنى الدبلوماسية الروسية أسلوبا أكثر جرأة ومغامرة في التعامل مع قضايا دول المنطقة، فروسيا التي حصرت جهودها في توسيع الأسواق خلال السنوات القليلة الماضية، قد تتحول على نمط أكثر مناهضة للنفوذ الأمريكي من خلال توسيع دائرة التعاون مع دول مثل مصر وبعض دول مجلس التعاون وغيرها. في الجانب المقابل، فإن ضم القرم إلى روسيا يعني توجيه ضربة قوية إلى المعسكر الأطلسي بقيادة الولاياتالمتحدة، وقضم جزء من أوكرانيا يوجه ضربة إلى مصداقية الولاياتالمتحدة ومقدرتها على بسط سيطرتها على النظام العالمي الجديد، والوفاء بتعهداتها للحلفاء، فعلى الرغم من عدم وقوع أوكرانيا في قلب أوروبا فإنها تمثل الكثير لها، والفشل في الدفاع عن سيادة أوكرانيا في هذا التوقيت، يعكس في أحد جوانبه هزة قوية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي يسعى في السنوات الأخيرة إلى البحث عن دور عالمي جديد. روسيا لن تفقد الكثير حتى لو أعلن الغرب وفاة "مجموعة الثماني" التي تنخرط فيها كما قالت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل في شبه إعلان رسمي عن طرد روسيا من المجموعة، ولكن في المقابل فإن دول الاتحاد الأوروبي تعتمد كثيراً على روسيا في إمدادات الغاز، وهو أحد جوانب قوة موقف الرئيس بوتين، الذي يدرك جيدا عدم رغبة الأوروبيين في استئناف أجواء الحرب الباردة كما أن بوتين يدرك بأن الشعب الروسي سيعتبره بطلاً قوميا حال تمسكه بعودة منطقة القرم نهائيا إلى روسيا. يجب أن الدول العربية أن تقرأ التحولات العالمية التي تتشكل حاليا بشكل جيد، فسيناريو الأزمة الأوكرانية، من دون مواجهة عسكرية ستفرز تحولات استراتيجية في إدارة العلاقات الدولية، فإدارة أوباما تمتلك الكثير من الأوراق الاستراتيجية لمعاقبة بوتين منها التراجع عن قرارها وقف خطط الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية، وهي الخطط الأمريكية التي اعترض بوتين عليها بقوة، وتسريع خطوات ضم "جورجيا" إلى حلف الأطلسي لتصبح شوكة جديدة في حلق بوتين. تمتلك واشنطن أيضا امكانية اللجوء إلى عقوبات اقتصادية موجعة مثل تجميد جزئي للأرصدة الروسية أو قطع جزئي للتعاملات التجارية، وبالتالي تدني حجم الاستثمارات في روسيا وهكذا يمكن التأثير في الاقتصاد الروسي ، وهكذا أيضا ستفزر الأزمة أجواء تنافسية ربما تتشابه مع بعض ملامح الحرب الباردة ولكنها ليست حربا باردة بسماتها التاريخية التقليدية التي يصعب أن تعود مجددا في ظل الحقيقة القائلة بأن الصراع هو صراع مصالح استراتيجية وليس صراعا أيديولوجيا بالأساس كمان كان الحال في السابق. الفرصة تبدو مواتية للدبلوماسية المصرية كي تقوم بتوظيف الدور الروسي بشكل جيد في الضغط على إثيوبيا لإبداء مرونة تفاوضية في أزمة سد النهضة، ولموسكو علاقات جيدة مع أديس أبابا، كما أن للروس مصلحة كبيرة في تقريب وجهات النظر المصرية الأثيوبية واستغلال أجواء المرحلة الراهنة في مصر، التي تبدو متحمسة للانفتاح على روسيا واستئناف التعاون الاستراتيجي معها من أجل تنويع خيارات الدبلوماسية المصرية في مختلف القضايا والملفات. الأزمات تنطوي دوما على فرص بقدر ماتنطوي على تحديات، ومن الحكمة أن نستوعب مافي الأزمة الاوكرانية من فرص وأن نتوقف لدراسة هذه الفرص بدلا من الاستغراق في تمعن ما تفرزه من تحديات لأطرافها.