كانت المرة الأولى التي أصافح فيها فرنسا وللمرة الأولى في حياتي تألف روحي بحرًا غير البحر الأحمر وشطًا غير شط قناة السويس الذي وُلدت ونشأت في رحابه على مدى ثمانية عشر عامًا قبل أن أهاجر إلى إيطاليا، بدأت جولتي بالقرب من مدينة "كان" حيث يقام مهرجان "كان السينمائي" الشهير وكنت أتأمل كل شيء حولي بفرحة وبدهشة بالغتين حتى إنني قلت في أعماقي "إذا كان هذا هو الجنوب وهؤلاء هم صعايدة فرنسا فكيف هو الشمال؟ وكيف هم أهله؟!". وانتهت جولتي الأولى بالجلوس على الشاطئ القريب لفندق المريديان بمدينة نيس، المدهش هنا -مقارنة بمصر مثلاً- أن الشواطئ كلها مفتوحة بالمجان.. شيء غريب! الأغرب من ذلك، الرجل الفقير النائم على الرمال في إحدى زوايا الشاطئ.. ملابسه مُهلهلة وقد اتخذ من حقيبته الصغيرة وسادة يريح رأسه عليها، ومن معطفه غطاء يحتمي به من رذاذ البحر المتناثر ومن قسوة نظرات الناس إليه وهو "مُكوّم" هكذا فوق الرمال. ما الذي جاء به إلى هنا؟ وكيف يجتمع كل هذا الفقر المُدقع المُتمثل في الرجل المشرّد مع كل هذا الثراء الفاحش المُتمثل في نيس وبناياتها الفخمة وروادها من السيّاح! سبحان الله، حتى في فرنسا هناك تناقض؟ نعم، حتى في فرنسا أيها الفقير السارح في الملكوت. المشهد مُتناقض ومؤلم خاصة أنه يذكّرني ببعض المناطق في القاهرة.. القاهرة مدينة السفارات والفنادق هي نفسها مدينة العشوائيات والمُعدمين!.. القاهرة التي ثارت في ميدان التحرير على حكم العسكر هي من تتودّد الآن لقائد العسكر وترفع صوره في نفس الميدان.