* عاين الأحداث العامة بنفسه ليتوخى الصدق ويتجنب نقل الأخبار الكاذبة * حفظ القرآن والأحاديث النبوية في سن الحادية عشرة * تنقل في أنحاء مصر ليعرف مواقعها ويتصل بعلمائها * ظل يبكي ابنه حتى فقد بصره ولزم بيته بلا قراءة أو كتابة عبدالرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي مؤرخ مصري كبير.. نشأ في بيت أبيه حيث ولد في عام 1167 ه، 1754م، يحفظ القرآن الكريم، وكغيره من أولاد العلماء ذهب إلى المدارس والكتاتيب لتعلم العلوم الدينية، وعين له والده شيخًا ليحفظه القرآن -الشيخ محمد موسى الجناجي- وشب عبدالرحمن فرأى العلماء والأدباء يأتون منزل أبيه، يتحدثون في العلوم والآداب، فجلس يستمع إليهم، ويأخذ من علمهم، كما استمع إلى كبار رجال الدولة وأمراء المماليك وأغنياء مصر الذين كانوا لا ينقطعون عن زيارة أبيه، بل إن جماعة من الأوروبيين كانت تأتي إليه ليتعلموا على يديه علم الهندسة، فعرف الجبرتي الكثير عن أحوال مصر وأسرارها حتى أطلق عليه المؤرخون «حامل رسالة التاريخ»، وكان يدخر كل ذلك في ذاكرته الحافظة الواعية، وازداد علمًا عندما ارتاد حلقات الأزهر الشريف، كما اتسم بالوعي القومي والموضوعية في تتبعه للفترة التي عاشها من تاريخ الوطن العربي. يعتبر عبدالرحمن الابن الوحيد الذي عاش من أبنائه الذكور، فاهتم به كثيراً بعد أن لمس فيه الذكاء والفهم ورجاحة العقل، فقد حفظ الشيخ عبدالرحمن القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشرة، وكان يحفظ الكثير من الأحاديث والروايات والأخبار التي كان يقصها والده على المشايخ والعلماء الذين كانوا دائمي التردد على منزله، ولهذا صار والده يخصه بأن يروي له أحداث العصر وأخبار الولاة والعلماء الذين عرفوه وعرفهم. بعد أن توفي والده وهو في سن الحادية والعشرين من عمره أخذ الجبرتي يتنقل في أنحاء مصر ليعرف مواقعها، ويتصل بعلمائها وكبارها وليعرف كيفية الحياة في القرى، وما يعانيه الفلاح من صعوبات في العيش وقد كان بطبيعته ميالاً للشهرة محباً للرحلة، وقد ساعده على ذلك ثروته الكبيرة، ورغبته في المعرفة والاطلاع التي كانت تدفعه دائماً، وقد كان هذا أحد الأسباب البارزة التي مكنته من تأليف كتابه الكبير فيما بعد، ولا شك أن الجبرتي قد أحاط بكثير من أخبار البلاد والعباد، مما جعله صادق الأحكام دقيقاً في تحليل الأمور مستوعباً لكل صغيرة وكبيرة من حياة الشعب المصري في الفترة التي تحدث عنها وتعامل معها. استغرق الجبرتي في هذا العمل ليله ونهاره، واستمر يبحث عن مصادره ومراجعه، وبدأ يدون الأسماء، وكان من الطبيعي أن يبدأ بالمشايخ، ومن كان منهم شيخاً للأزهر، ومشايخ آخرين، ومن كان أبوه يطلق عليهم الطبقة العليا، ثم الطبقة التي تليها ممن اشتهروا بالعلوم الفقهية والعقلية والنقلية والشعر والأدب والخطابة وغير ذلك. كما شرع يدوّن أسماء الأمراء ومن بلغ منهم مشيخة البلد ومن شاركه في الحكم، واستعان الجبرتي في علمه هذا بكل من اعتقد أن عندهم عونًا، ومن هؤلاء صديقه المشهور إسماعيل الخشاب الذي التحق شاهداً بالمحكمة، وكان من المشهورين بالعلم والأدب في عصره. ظل الجبرتي مشتغلاً بجمع أخباره وتقييدها حتى فاجأته وفاجأت المصريين جميعهم الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م وكان عالمنا في وقتها في الرابعة والأربعين من عمره، لذلك لم ينقطع خلال فترة بقاء الفرنسيين في مصرعن تسجيل أعمالهم، ورصد تحركاتهم، والتعليق على أقوالهم وأفعالهم، وكان أكثر العلماء الأزهريين دقة في تدوين ملاحظاته على نظام الحياة في مجتمع الجنود الفرنسيين وطرائقهم في تنظيم حياتهم. عاصر هذه الحملة ووصفها بالتفصيل في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» والمعروف اختصاراً بتاريخ الجبرتي الذي يعد مرجعاً أساسياً لتلك الفترة المهمة من الحملة الفرنسية على مصر ثم استيلاء محمد علي على الحكم، فضلاً عن أنه تحدث عن مشاهداته الشخصية وتجاربه العملية الحياتية، وقد تفاوتت مواقفه من الحياة الاجتماعية والثقافية للفرنسيين فأحياناً كان يبدي إعجابه ببعض مظاهر السلوك الفرنسي ولا سيما ما يتعلق بالمعرفة وحب العلم وإجراء التجارب واستخدام الأجهزة والأدوات وعلى الجانب الآخر قد لا يستطيع أن يخفي سخطه خاصة فيما يتعلق بتصرفات النساء منهم وخروجهن للعمل سافرات على غير المعهود في المجتمعات الإسلامية في ذلك الوقت. نال كتاب الجبرتي «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» ثناءً كبيراً في أوساط الشعب ومن الحكام الأتراك، فقد حمله الوزير العثماني إلى الآستانة بتركيا وعرضه على السلطان العثماني سليم الثالث الذي أمر كبير أطبائه مصطفى بهجت بنقله إلى اللغة التركية فتم ذلك في عام 1807م. كان لهذا التكريم الذي ناله الجبرتي حافزاً كبيراً مما جعله يتجه إلى جمع تاريخ مصر الذي انشغل به منذ خمسة عشر عاماً في كتاب واحد ولذلك عقد العزم على كتابة تاريخ مصر الكامل جاعلاً كتابه «مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس» أحد فصوله الرئيسة، فقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول حتى اخر عام 1189ه، والثاني حتى آخر عام 1212 ه، والثالث حتى آخر عام 1220ه وأسماه – (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) والمعروف ب «تاريخ الجبرتي» -، وقد انتهى الجبرتي من تدوين هذه الأجزاء الثلاثة في عام 1221 ه. وقف الجبرتي موقف المعارض لحكم محمد علي باشا منذ بداية حكمه لمصر وانشقاقه على الدولة العثمانية وظل سنوات يترقب ما تؤول إليه الأحداث في عهد هذا الرجل وكان خلال ذلك يرصد كل شيء، ويدون الحوادث والمتفرقات، ويسند كل ما يقول ويرجع إلى مصدر ثقة أو شاهد عيان سماع عاصر الحدث أو سمع عنه، كما حرص على أن يعاين الأحداث العامة بنفسه ليتوخي الصدق ويتجنب نقل الأخبار الكاذبة. تعرض الجبرتي في سياق ذلك لكل شيء، فقد ذكر الأحوال الاقتصادية من زراعة وتجارة وفلاحة، وإلى أنواع النقود المتداولة في الدولة وإلى الأسعار وأنواع المقايضات التي كانت تحكم العلاقات التجارية، وتعرض إلى الحياة الاجتماعية بكل ما فيها من أحوال شخصية وعادات أسرية وقيم سائدة في المجتمع آنذاك، كما تعرض إلى الحياة الدينية والثقافية وأخبار الأدباء والعلماء المشهورين والمشايخ البارزين. ظل الجبرتي دؤوباً في عمله حتى عام 1237 ه عندما فاجأته فاجعة لم تكن بالحسبان، فقد قُتِل ولده خليل، فقصمت ظهره، وكثرت الأحاديث حول أسباب وظروف قتل الابن، ولكن أغلبها تشير إلى أن سبب ذلك هو موقفه المعارض من حكم محمد علي وثورته على الدولة العثمانية، لكن أثرت فيه هذه الحادثة الفاجعة، فلم يجد القدرة على استكمال تاريخه وفقد دافعه لاستكمال المسيرة التي بدأها، وظل يبكي ابنه حتى كف بصره، ولزم هذا المؤرخ الكبير بيته بعد تلك الفاجعة التي ألمت به لا يقرأ ولا يكتب ولا يتابع الأخبار حتى توفي عام 1240 ه بعد مقتل ولده بحوالي ثلاث سنوات.