هو عالم كبير من علمائنا العرب الذين سيظلون في الوجدان بكل ما أسهموا من أعمال وإنجازات ستظل باقية طالما أشرقت الشمس كل صباح، هو أبوالحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم المعروف بابن النفيس، وأحياناً بالقرشي نسبة إلى قَرش، في بلاد ما وراء النهر، ومنها أصله، وهو طبيب وعالم وفيلسوف، ولد بدمشق سنة 607 ه وتوفي بالقاهرة سنة 687 ه. وانضم ابن النفيس إلى مدارس الفقه والحديث في بداية تعليمه، وعكف على دراسة علوم اللغة العربية وبيانها وصرفها، وأدرك معانيها في زمن قياسي لم يقدر عليها دارس قبله، فكان إعجاب الأساتذة بتلميذهم الذكي شديداً مشجعاً، حتى ظن بعضهم أن ابن النفيس سيكون عالم فقه وحديث من الطراز الأول. ولكن ابن النفيس ذهب في اتجاه آخر تماماً، حيث وجد نفسه شغوفاً بالعلم والطب، ولعل الدافع الرئيس الذي أدى به إلى دراسة الطب تعرضه في سنة 629ه الموافق1231م، لأزمة صحية شديدة ألمت به قال عنها «قد عرض لنا حميات مختلفة، وكانت سننا في ذلك الزمان قريبة من اثنتين وعشرين سنة، ومن حين عوفينا من تلك المرضة، حملنا سوء ظننا بأولئك الأطباء -الذين عالجوه- على الاشتغال بصناعة الطب لننفع بها الناس»، إلا أن رغبته في دراسة الطب قوبلت بمعارضة شديدة من الأهل، لأن دراسة الطب في تلك السنوات كانت شيئاً جديداً على مجتمع حمص الذي كانت مجالس العلم فيه عامرة بالفقه واللغة والحديث، ولذلك أدهشهم اختيار ابن النفيس للطب حيث كان والده أول من اعترض على رغبته، ولكن ابن النفيس أصرّ على دراسة الطب، راجياً أباه أن يمنحه هذه الفرصة، واعداً إياه بالعمل على بلوغ مركز متقدم في هذه الدراسة. وبعد نقاش طويل استمر فترة طويلة، أقنع ابن النفيس والده بأهمية دراسة الطب، فوافق على سفر ابنه إلى دمشق كي ينتظم في «البيمارستان النوري»، نسبة إلى نور الدين زنكي منشئ هذا البيمارستان. وفي هذا المعهد الطبي، درس ابن النفيس الطب على يد المعلم «مهذب الدين عبد الرحيم» طبيب العيون الشهير آنذاك، المتوفى سنة 628ه الموافق 1230م، والطبيب عمران الإسرائيلي المتوفي سنة 637 ه الموافق 1229م. الانتقال للقاهرة وفي سنة 633ه/1236م، نزح ابن النفيس إلى القاهرة، ويقال إن سبب ذلك كان على أثر خصومة شديدة مع ابن أبي أصيبعة، فالتحق بالبيمارستان الناصري، واستطاع بجده واجتهاده أن يصير رئيساً له، وتلميذاً للمدرسة الطبية الملحقة به، ثم انتقل بعد ذلك بسنوات إلى بيمارستان «قلاوون» على أثر اكتمال بنائه سنة 680ه الموافق 1281م. ثم أصبح مشرفاً على البيمارستان المنصوري وحمل لقب رئيس أطباء مصر وطبيب السلطان. وبعد مضي تسع وثلاثين عاماً على وجوده في مصر، وفي عام 671ه حل بمصر وباء اجتاح المدن والقري وأصاب الناس إصابات بالغة، فما كان منه إلا أن تصدى ابن النفيس لهذا المرض بكل شجاعة، وعندما استفحل المرض واتسعت دائرة انتشاره، وراح يفتك بالكل، شكل بنفسه فريقاً طبياً كبيراً لتنفيذ وصاياه في معالجة المرضى، وبعد حوالي ستة أشهر من انتشار المرض، استطاع ابن النفيس السيطرة على المرض والقضاء عليه تماماً، فكرّمه المصريون، وقدموا له الهدايا، ولقّبوه «بالمصري»، وأغدقوا عليه الأموال، ما مكّنه من شراء دار فسيحة، وتردد على مجلسه العلماء والأعيان وطلاب العلم يطرحون عليه مسائل الفقه والطب والأدب، وعرف عنه بعد ذلك أنه متدين على المذهب الشافعي، ولذلك أفرد له السبكي ترجمة في كتابه «طبقات الشافعية الكبرى»، باعتباره فقيهاً شافعياً. اشتهر ابن النفيس بعلمه الغزير في مجال الطب وأدويته القادرة على شفاء الأمراض الغريبة على المجتمع آنذاك ولكن يظل اكتشافه للدورة الدموية هو الأعظم طيلة حياته، حيث اقترن اسم ابن النفيس باكتشافه الدورة الدموية الصغرى، أو دوران الدم الرئوي، التي سجّلها في كتابه «شرح تشريح القانون» لابن سينا، وقبل العالم الطبيب الإنجليزي هارفي المتوفي (سنة 1068 ه /1657م)، الذي بحث في دورة الدم بعد ما يزيد على ثلاثة قرون ونصف من وفاة ابن النفيس. وقال ابن النفيس في هذا الكتاب «والذي نقوله نحن والله أعلم، أن القلب لما كان من أفعاله توليد الروح، وهي إنما تتكون من دم رقيق جداً شديد المخالطة لجرم هوائي، فلابد أن يحصل في القلب دم رقيق جداً وهواء ليمكن أن يحدث الروح من الجرم المختلط منهما، وذلك حيث تولد الروح وهو التجويف الأيسر». وكان هذا الاكتشاف قد ظل مجهولاً للمعاصرين حتى عثر الدكتور محيي الدين التطاوي أثناء دراسته لتاريخ الطب العربي على مخطوط في مكتبة برلين رقمه 62243 بعنوان شرح تشريح القانون، فعُني بدراسته وأعد حوله رسالة لنيل الدكتوراه من جامعة فرايبورج بألمانيا موضوعها «الدورة الدموية تبعاً للقرشي – أي ابن النفيس». ولجهل أساتذته بالعربية أرسلوا نسخة من الرسالة للمستشرق الألماني مايرهوف (المقيم بالقاهرة وقتها) فأيد مايرهوف التطاوي، وأبلغ الخبر إلى المؤرخ جورج سارتون الذي نشره في آخر جزء من كتابه «مقدمة إلى تاريخ العلوم». وكان هذا الاكتشاف خطوة كبرى اعتمد عليها بعد ذلك الطبيب البريطاني هارفي الذي كشف سنة 1628 م الدورة الدموية الكبرى. كان ابن النفيس يعتز بكتبه ومؤلفاته اعتزازاً كبيراً لدرجة أنه قال «لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة ما وضعتها». وقد ترك عدداً من المؤلفات منها –على سبيل المثال لا الحصر- شرح تشريح القانون، الكتاب الشامل في الطب، المهذب في الكحل، المختار في الأغذية، شرح فصول أبقراط، موجز القانون، شرح تقدمة المعرفة، شرح مسائل حنين بن إسحاق، شرح الهداية في الطب، بغية الفطن في علم البدن.