منذ شرع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي) في رفع أسعار الفائدة اعتبارا من مارس الماضي، ارتفع سعر الدولار مقابل معظم عملات العالم إن لم يكن كلها، وأجبر ذلك البنوك المركزية في أنحاء العالم على التحرك لحماية عملاتها الوطنية. وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية إن موجة التضخم العالمي وارتفاع سعر الدولار كشفا حجم الاعتماد المتبادل في النظام المالي العالمي، ومدى ارتهان عملات العالم الكبرى والوطنية لأي تغيرات في سعر الدولار وهشاشتها أمام أي قرارات قد تتخذها السلطات الأمريكية دون مراعاة لمصالح أي دول أخرى الاحتياطي الفيدرالي يعزز الدولار على حساب العالم ورفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة 5 مرات هذا العام حتى الآن، ومن المتوقع أن يستمر في تشديد سياسته النقدية أملًا في السيطرة على التضخم من خلال سحب الفائض في المعروض النقدي من الأسواق، وكان من نتائج ذلك تدفق الدولار من خزائن دول العالم عائدًا للاستثمار في أدوات الدين الأمريكية (مثل سندات وأذون الخزانة) انتظارًا لأرباح أعلى مما يمكن أن يحققها الدولار عند استثماره خارج الولاياتالمتحدة. وأدى هروب الدولار من بنوك العالم إلى هزات عنيفة في أسعار العملات الوطنية، وسبب ارتباكًا حتى في اقتصادات العالم الكبرى، من اليابان إلى الصين إلى الهند إلى بريطانيا. ونقلت الصحيفة عن سيما شاه، المسئولة بشركة "برينسيبال" لإدارة الأصول، أن "الاحتياطي الفيدرالي يعزز قوة الدولار أكثر من اللازم ويشل قدرات بقية البنوك المركزية على تحقيق الاستقرار لاقتصاداتها"، فارتفاع سعر الدولار أمام عملة أي دولة يعني ارتفاع تكاليف استيراد السلع والطاقة، ما يساهم في رفع معدلات التضخم ويثقل كاهل الأسر والشركات بأعباء إضافية. ويعني ارتفاع سعر الدولار كذلك تعثر الدول أو الشركات المثقلة بديون مقومة بالدولار في السداد، لأن المستثمرين يحولون أموالهم بكثافة إلى الإيداع في البنوك الأمريكية أو الاثتثمار ي أدوات الدين الأمريكية، حارمين بقية دول العالم من جزء لا يستهان به من احتياطياتها بالنقد الأجنبي وقدرتها على تسديد ديونها بانتظام. لكن المكاسب السريعة التي يحققها الدولار أمام عملات العالم ليست بلا مخاطر، فالأسواق الآن مرتبطة ببعضها على نحو لا يمكن معه عزل تأثير أي تطور يقع في مكان ما عن مكان آخر، وتقول الخبيرة الاقتصادية والمسئولة السابقة في الاحتياطي الفيدرالي كلوديا سام إن "الاحتياطي الفيدرالي يدفع الأسواق المالية في اتجاه خطر بشكل أسرع من اللازم". البنوك المركزية تنتفض في وجه الدولار ولم يكن هناك مفر أمام البنوك المركزية في أنحاء العالم من أن تتحرك دفاعا عن عملاتها الوطنية، ومن بين الإجراءات التي اتخذتها استخدام احتياطياتها من العملات الاجنبية مثل الدولار واليورو والإسترليني لشراء عملاتها الوطنية، إذ إن خلق الطلب على العملات الوطنية يعزز قيمتها أمام العملات الأجنبية. قرارات المركزي تقوي الجنيه.. ألمانيا وفرنسا تأثرتا بارتفاع الدولار أكثر من مصر يتم تطبيقه اليوم.. مصر تواجه تحدي الدولار بقانون جديد لجذب العملة الصعبة|تفاصيل وفي مارس الماضي، أنفق بنك اليابان (البنك المركزي الياباني) 20 مليار دولار من احتياطيه النقدي لشراء الين الياباني، في تدخل هو الأول من نوعه منذ عام 1998، ومع أن الإجراء ساهم نوعًا ما في تهدئة السوق المالية في اليابان، فإن أثره كان مؤقتًا وسرعان مع عادت قيمة الين إلى التراجع. واعتبارًا من مارس الماضي، باع البنك المركزي الهندي مبالغ ضخمه من احتياطيه من الدولار لشراء الروبية، وخلال العام المنصرم بين أغسطس 2021 وأغسطس 2022 اشترى البنك المركزي الهندي الروبية بما قيمته 43 مليار دولار، لكن مع ذلك انخفضت قيمة الروبية أمام الدولار بنسبة 10% خلال العام الجاري، وفي بيانه الشهري الأخير، حذر محافظ البنك المركزي الهندي شاكتيكانتا داس من أن "الاقتصاد العالمي في قلب عاصفة جديدة". وقال براد ستسر، زميل مؤسسة "مجلس العلاقات الخارجية" الأمريكي للدراسات والمستشار السابق لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، إن معظم البنوك المركزية في دول العالم أقدمت على تدخلات مماثلة لوقف تراجع قيمة عملاتها الوطنية أمام الدولار، لكنها نجحت بالكاد في إبطاء وتيرة تراجعها فقط، مضيفًا "كان من الصعب للغاية مقاومة الضغوط الناتجة عن رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة". وحتى الآن، لم يتدخل البنك المركزي الصيني بشكل مباشر لدعم قيمة اليوان، ويرجع ذلك جزئيًا إلى قوة اليوان النسبية مقارنة بباقي العملات الآسيوية، ولأن الحكومة الصينية شرعت منذ فترة طويلة في تطبيق سياسة مصرفية تستهدف دعم قوة اليوان. ارتفاع سعر الدولار يرتد بنتائج عكسية على أمريكا وبجانب بيع البنوك المركزية جزء من احتياطيها من الدولار لدعم قيمة عملاتها الوطنية، هناك طريقة أخر تتمثل في بيع البنوك المركزية ما بحوزتها من سندات الخزانة الأمريكية المقومة بالدولار، بهدف خلق فائض من المعروض منها لتقليل قيمتها ومن ثم تقليل قيمة الدولار، وهو ما أقدمت عليه بالفعل بنوك الصينواليابانوالهند المركزية. والسؤال الذي يقلق مسئولي السياسات النقدية الأمريكية حاليًا هو ما إذا كان ارتفاع الدولار سيرتد بردود أفعال مثل تلك المشار إليها من جانب البنوك المركزية الأخرى، والتي قد تؤدي إلى تقليص الطلب على أدوات الدين الأمريكية، فتنخفض قيمة سندات وأذون الخزانة الأمريكية بالتالي. ولا يعتزم الاحتياطي الفيدرالي التخلي عن دوره في خطة مكافحة التضخم ورفع أسعار الفائدة، حيث يؤثر هذا سلبا على بقية العالم، بل يمكنه اللجوء إلى خطوط مبادلة العملات، التي يمكن من خلالها تزويد البنوك المركزية الأجنبية بالدولار، لكن يظل حجم التعاملات عبر خطوط المبادلات ضئيلا مقارنة بحجم الأسواق المالية العالمية، وفي حال استخدمتها البنوك المركزية في المزيد من التدخل في أسواق صرف العملات، فستعود الدولارات المتدفقة عبرها مرة أخرى إلى الولاياتالمتحدة، ما يجعلها آلية ضئيلة الجدوى. ويبدو أن السبيل الواقعي الوحيد أمام الدول لدعم عملتها في مقابل الدولار هو رفع أسعار الفائدة على الودائع، مما يساعد على تدفقه إلى أسواق أصولها وأدوات ديونها، لكن هذه الخطوة ليست سهلة في ظل الظروف الراهنة، حيث يضعف رفع أسعار الفائدة النمو الاقتصادي، لكن العديد من البنوك المركزية في البلدان النامية رفعت أسعار الفائدة في خطوة استباقية لقرار مماثل من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، آملة أن يرخي ذلك لقرار من قبضة الأزمة، لكن لسوء الحظ لم يتحقق هذا الهدف وذهب تأثير القرار سدى. ويكمن الحل على المدى الطويل في تنويع البنوك المركزية لاحتياطياتها من النقد الأجنبي، وأن تتحول معاملات الدول من الدولار إلى عملات منطقة اليورو والصين والاقتصادات الناشئة، مما يقلل من ارتهانها لقرارات بنك مركزي واحد (الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي)، حيث فات أوان فك الارتباط الكامل للعملات بالدولار بعد نشوء هذا الوضع منذ ما يزيد على نصف قرن.