لقد اصطفانا الله – تعالى- بأوقات؛ تصفو فيها نفوسنا، وتلين فيها قلوبنا، وتعلو فيها هممنا وأعمالنا، وتكفر فيها ذنوبنا وسيئاتنا. نقترب فيها منه؛ فنحل حلاله، ونحرم حرامه، ونأمر فيها بالمعروف وننهى فيها عن المنكر. ونشعر فيها بالفقير والمحتاج والمريض؛ فنخرج لهم عن طيب نفس، ونشاركهم ما يشعرون به عن رضى وحب، ونعود المريض رغبة في الثواب والأجر. هذه الأوقات وصفها النبي – صلى الله عليه وسلم- بالنفحات؛ لما فيها من كثرة العطايا والمنح والهبات من رب العالمين؛ فقال عنها: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا» (المعجم الأوسط للطبراني؛ حديث رقم: 2856). وهذه النفحات منها ما هو يومي؛ كأداء الصلاة في وقتها المحدد لها، وما تشتمل عليه من روحانيات وتجليات من الله – تعالى- خمس مرات في اليوم والليلة. ومنها ما هو أسبوعي؛ كيوم الجمعة، وما يشتمل عليه من حضور خطبتها، وأداء لصلاتها، وانتظار ساعة الإجابة فيها ، فهو يوم عيد في الأرض وفي السماء. ومنها ما هو سنوي؛ وهي نفحة رمضان، وما يشتمل عليه من الخير والبركات والرحمات، ونيل الطلبات واستجابة الدعوات، وغير ذلك مما تفضل الله – تعالى- به على الصائمين. وهذه النفحات السابقات قد جمعها النبي– صلى الله عليه وسلم- في قوله: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» (صحيح مسلم، حديث رقم: 233 ) وقد كان – صلى الله عليه وسلم- إذا جلس مع أصحابه الكرام بين لهم فضل نفحة رمضان وثوابها العظيم، وحثهم على التأدب بآداب شهر رمضان والتخلق بأخلاقه العظيمة. فكان يقول لهم: «قَالَ اللَّهُ- تعالى-: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».(صحيح البخاري، حديث رقم: 1904) فإن لابن آدم حظا ودخلا في كل عمل له؛ وذلك لاطلاع الناس عليه فهو يتعجل به ثوابا منهم، إلا الصيام فإنه خالص لله وحده لا يطلع عليه غيره، كما لا يعلم ثوابه المترتب عليه إلا هو، حيث لم يكله إلى ملك مقرب ولا غيره؛ لأنه سر بين العبد وبينه لا يطلع عليه غيره. وخلوصه لله وحده من جهات؛ لعل أهمها: أولها: أن جميع الأعمال يقتص منها يوم القيامة في المظالم إلا الصوم، فإنه لله- تعالى- ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئًا. ثانيها: أنه لم يُعبد به غير الله -تعالى-، فلم تعظم الكفار في عصر قط آلهتهم بالصوم وإن عظموها بالسجود وغيره. والصيام بمثابة ترس يدفع المعاصي أو النار عن الصائم كما يدفع الترس السهم، ومن ثم؛ فعلى الصائم ألا يتكلم بقبيح وألا يصيح بصوته، وإن تعرض لسب أو شتم أو نزاع فليقل بقلبه أو لسانه أو بهما (وهو أولى): إني امرؤ صائم؛ ليكف نفسه عن مقاتلة خصمه.(فيض القدير للمناوي: 4 / 471). ولقد علم الصحابة الكرام فضل هذه النفحة العظيمة؛ فتعلموا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كيفية اغتنام أيام وليالي شهر رمضان المعظم، ولنا فيهم من الأسوة والقدوة الحسنة ما يدفعنا إلى الإكثار من الطاعات، وتحصيل الحسنات؛ حتى نكون من عتقائه، فقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ " ». (سنن الترمذي، حديث رقم: 682) فاللهم لا تحرمنا أجرها، ولا تمنعنا خيرها، وكن لنا معينا، وأصلح لنا شأننا ولا تكلنا إلى نفوسنا طرفة عين.