د. أسامة إبراهيم يكتب: الحريَّة والتعدديَّة في ضوء «وثيقة الأخوَّة الإنسانيَّة»

إن من مبادئ «وثيقة الأخوة الإنسانية»، الحريَّةَ والتعدديةَ، وقد ورد فيها ما ينصُّ على ذلك: «أنَّ الحريَّةَ حَقٌّ لكُلِّ إنسانٍ: اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا ومُمارَسةً، وأنَّ التَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمةٌ لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ، قد خَلَقَ اللهُ البشَرَ عليها، وجعَلَها أصلًا ثابتًا تَتَفرَّعُ عنه حُقُوقُ حُريَّةِ الاعتقادِ، وحريَّةِ الاختلافِ، وتجريمِ إكراهِ الناسِ على دِينٍ بعَيْنِه أو ثقافةٍ مُحدَّدةٍ، أو فَرْضِ أسلوبٍ حضاريٍّ لا يَقبَلُه الآخَر»، فالإسلام الحنيف قد كَفَلَ لغير المسلمين حريةَ الاعتقاد والعبادة، فلم يُجْبِر أحدًا على الدخول في الإسلام، أو اعتناقه قسرًا أو كَرْهًا، حيث قال الله - تعالى - في آية فاذة قاطعة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وأكَّدَ الله - جل جلاله - في القرآن الكريم اختصاصه - عز وجل – وحده بحساب مَنْ يدعو معه غيره، فقال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، وخاطب نبيه - صلى الله وعليه وآله وسلم- بقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، وقال له أيضًا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (*) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99، 100]، وقال – سبحانه -: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، وقال - عز شأنه -: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، كما تأتي آيات كثيرة تبِّين لرسول الله - صلى الله وعليه وآله وسلم- عدم جدوى وسائل الإكراه وفرض الاعتقاد على الآخرين، وأن الله -تعالى- لو علم أنّ الإيمان يمكن أن يأتي بالإكراه لأمر رسله بإكراه الناس على الإيمان وقبول الإسلام، فقال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107]، وقوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، كما يُبَيِّنُ - جل شأنه - أنّ شأن العقائد أن لا تخضع للإكراه من أيّ نوعٍ كان، حتى ذلك الذي يأتي من زاوية الحرص على المدعوّ، والرغبة في إنقاذه، فقال - تعالى -: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]؛ ولذلك فقد حثَّه على ممارسة الدعوة إلى الإيمان ونبذ الكفر بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن: فقال - جلَّ شأنه -: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

من ذلك كله يتضح أنّ الإنسان حرٌّ في اختيار المعتقد، وأنّ الحساب على ذلك خاصٌّ بالله - جل شأنه - لا يجاوزه إلى سواه، وقد وردت آياتٌ كثيرة تدلُّ على أنه ليس لأحد أن يُكره أحدًا على اعتناق عقيدته، أو أن يجبره على اختيار دينه.
كما أن الإسلام الحنيف يَعُدُّ الناس جميعًا أخوةً في الإنسانية، لهم الحق في العيش الكريم دون استثناء أو تمييز؛ قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، وقد عَدَّ هذا الاختلاف الذي يوجد في أفراد العائلة الإنسانية من حيث اللون والجنس واللغة آية من آيات الله - تعالى -؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22]، فهذا الاختلاف آية ربانية تبعث على التعارف والتعايش والتعاون على الخير والمعروف وما فيه نفع الإنسانية جمعاء، وقد حَثَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا التعايش الإنساني المشترك الذي يقوم على السلم والسلام والأمن والأمان حيث قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» (متفق عليه).
وقد اعتنت السُّنَّة النبوية بالحرية، ابتداءً من المحافظة على حرية النفس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: «ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» (أخرجه البخاري في «صحيحه»)، وواجهت الرق والأسر، فعَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فُكُّوا العَانِيَ، يَعْنِي: الأَسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ» (أخرجه البخاري في «صحيحه»).
وأعان - صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي هو وصحابته الكرام على تخليصه من رقِّ العبودية، ففي حديث سلمان الفارسي الطويل: «ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ» فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ مِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ، وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ»، فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يَعْنِي: الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ»، قَالَ: فَفَقَّرْتُ لَهَا، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعِي إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ، وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتَبُ؟» قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: «خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ» فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: «خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ» قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا، وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ، وَعَتَقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ» (أخرجه أحمد في «مسنده»، بسند صحيح).
ودعت إلى الخروج من ربقة التقليد الأعمى، وعدم إلغاء الشخصية، فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا» (أخرجه الترمذي في «جامعه»، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»).
وفي جانب الحرية العقدية ورد عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ – أي وجع - فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا» (متفق عليه)، فحينما ارتد هذا الرجل عن الإسلام، وفارق المدينة لم يرسل في طلبه، ولم يحبسه، ولم يأمر بقتله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد راعت السُّنَّة النبويةُ التعدديةَ الفكريةَ والمذهبيةَ والحواريةَ والاجتهاديةَ، فعَن ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ» (متفق عليه).
وما أكثرَ محاوراته - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه، كما في حوار النبي مع عمر وعلي يوم الحديبية، ومع المجادلة في الظهار، ومع المعترض على العطية: ويحك من يعدل إن لم أعدل، وغيرها كثير.
واهتمت السُّنَّة النبوية بالحرية المالية والتجارية، فعَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عَمِّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَذُودُ عَنْهُ النَّاسَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ تَدْرُونَ فِي أَيِّ يَوْمٍ أَنْتُمْ؟ وفِي أَيِّ شَهْرٍ أَنْتُمْ؟ وَفِي أَيِّ بَلَدٍ أَنْتُمْ؟» قَالُوا: فِي يَوْمٍ حَرَامٍ، وَشَهْرٍ حَرَامٍ، وَبَلَدٍ حَرَامٍ، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَهُ»، ثُمَّ قَالَ: «اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ ...» (أخرجه أحمد في «مسنده»، بسند صحيح)، ولم يُسَعِّر النبي - صلى الله عليه وسلم - السلع للناس في السوق احترامًا لحرية البيع والشراء يوم أن كانت الضمائر حية، والذمم سليمة والفطر مستقيمة، فقد ثبت عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ هُوَ المُسَعِّرُ، القَابِضُ، البَاسِطُ، الرَّزَّاقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» (أخرجه الترمذي في «جامعه»، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح»)
وأعطت حرية الاختيار للبائع والمشتري، فعن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (متفق عليه).
وكفلت السنة المطهرة الحرية في إبداء الرأي والمشورة، والسيرة حافلة بذلك كما في المشورة يوم بدر في القتال، وفي اختيار المكان، وفي قضية الأسرى، وكذا في يوم أحد، ويوم الخندق، ويوم الحديبية، وغير ذلك.
بل ذهبت السنة النبوية في الحرية شأوًا بعيدًا ومذهبًا حميدًا حيث أعطت الحرية في أداء بعض العبادات النوافل، فعن عَبْدِ اللَّهِ المُزَنِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ»، قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ»، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً» (أخرجه البخاري في «صحيحه»)، ولما سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ»(متفق عليه ).
ولو أخذنا نتتبع السنن الشريفة في ذلك لطال بنا المقام، ولما كفانا الكلام، فقد أشارت السُّنة إلى الحرية في الوقف، وفي الزواج، وفي الحوار، وفي إبداء المشورة، وفي المعاملة بين الزوجين، وفي الجوار والحماية، وفي خروج النساء للمسجد وطلب العلم، وغير ذلك من أمور العبادات والمعاملات.