خلال عام 2011 عانى الشعب المصرى - باستثناء فئة قليلة - من الغياب الأمنى المقصود، ومن إصرار ضباط الشرطة على ترك البلطجية واللصوص يؤدبون المواطنين الذين فرحوا بالثورة على مبارك وجهاز أمنه الفاسد. وخلال كل الأحداث التى شهدتها مصر بعد سقوط مبارك، كان البلطجية وأرباب السوابق هم التنظيم الأكثر قوة والأكثر تمتعاً بالحماية، والأكثر تمويلاً أيضاً، فقد أنفق رجال أعمال نظام مبارك مبالغ ضخمة، لتجنيدهم والدفع بهم لتخريب الوقفات الاحتجاجية والاعتداء على الثوار والسطو على الممتلكات الخاصة وحرق المنشآت العامة، ومع كل حدث كبير كان الأمر ينتهى بإحصاء الجرحى والقتلى من الثوار، والبحث اليائس عن هذا الطرف الثالث الذى يتحرك بحرية ويرتكب أبشع الجرائم، ثم يعود إلى مكمنه آمناً من أى ملاحقة. وأثناء ذلك كله كان المواطنون يتوافدون بالآلاف يومياً على أقسام ومراكز الشرطة، للإبلاغ عن سرقة ممتلكاتهم والاعتداء عليهم بالضرب فى الطرقات العامة، وكان الرد الوحيد الذى اتفق عليه كل ضباط المباحث هو أنهم لا يستطيعون ملاحقة أى بلطجى، إلا بإذن مسبق من النيابة العامة، تنفيذاً لمطالب شباب الثورة، وحتى فى حالات الإبلاغ عن أشخاص محددين، كان ضباط المباحث يسألون الضحايا: وماذا أفعل إذا واجهنى البلطجى بسلاح؟!.. هل أتركه يقتلنى فيعتبره الثوار بطلاً.. أم أقتله فيحسبه الثوار شهيداً ويطالبون بمحاكمتى؟ فى مواجهة هذا المنطق المغلق دفع المواطنون ثمناً فادحاً، وتعرض الآلاف للسرقة والقتل والإصابة، واستمتع جهاز الشرطة بترك البلطجية - وهم قطاع على علاقة عضوية بأجهزة المباحث - يفتكون بالمواطنين، حتى يدفعوا الجميع إلى الكفر بالثورة، وحتى يمهدوا الساحة لرد فعل عنيف ضد الثوار، باعتبارهم المسؤولين عن انعدام الأمن والأمان فى مصر. ومؤخراً، كشر وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم عن أنياب وزارته، واستثمر احتياج كل مواطن إلى الأمن فى حشد الإعلام والرأى العام خلفه، للإجهاز على البلطجية حتى لو اضطر إلى قتلهم بالرصاص الحى وكأنهم كلاب شوارع ضالة، بل ذهب الرجل إلى حد التصريح علناً بتخصيص مكافأة لكل ضابط شرطة يقتل بلطجياً! صحيح أن الوزير سارع بعد ذلك إلى تلطيف تصريحاته المخيفة بالقول إن ضباطه لن يطلقوا الرصاص إلا على البلطجى الذى يشتبك معهم أو يرفع سلاحاً فى مواجهتهم، لكن الوزير لم يحدد لنا الطريقة التى سيلجأ إليها، لإثبات أن «القتيل» رفع سلاحاً أو بادر بالاعتداء قبل أن يرديه الضباط قتيلاً! الأهم من ذلك، أننا نعرف جيداً أن الآلاف من ضباط المباحث وأمناء الشرطة يفتقرون إلى كل شروط الكفاءة المهنية، ولا يكاد أحدهم يعرف طريقة أخرى لإنجاز مهمة، غير الاستعانة بالبلطجية، وبعد الثورة تحول عدد ضخم من هؤلاء المجرمين إلى العمل بمعزل عن جهاز الشرطة، وليس خافياً على أحد أن العلاقة بين الضابط الفاسد ومعاونه البلطجى شهدت توتراً وانفلاتاً قد يؤدى إلى رغبة جارفة لدى بعض الضباط فى التخلص من البلطجية بالقتل، على اعتبار أنهم أصدقاء الأمس الذين تحولوا اليوم إلى أعداء ألداء. والخلاصة أننا الآن أمام وضع كارثى يتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، حتى لو كان هذا الإنسان بلطجياً أو لصاً أو سارقاً، والسكوت عن هذا المنهج المختل الذى يتبناه وزير الداخلية فى التعامل مع البلطجية بالقتل سيفتح الباب لقتل الأبرياء أولاً، ولن يعدم جهاز الشرطة وسائل تلفيق التهم وتجنيد الشهود وتستيف الأوراق التى تضلل العدالة وتخدع المجتمع كله. إن قتل «البلطجية» - حتى لو كانوا بلطجية فعلاً - مثل كلاب الشوارع، هو عمل وحشى وإجرامى لا يمكن قبوله أو السكوت عليه أو تأييده، وهو أيضاً سلوك لا يمكن أن يؤدى إلى استعادة الأمن المفقود، بل المؤكد أنه سيؤدى إلى مزيد من الانفلات ومن العنف الدموى والتوحش المجتمعى، والأهم أنه سيمنح جهاز الشرطة الذى أهانته الثورة رخصة الانتقام من الشعب كله تحت ستار التصدى للبلطجية.. وساعتها، سنكتشف أن هذا المنهج الدموى قد أطاح مرة واحدة بأهم مكتسبات الثورة: «احترام الكرامة الإنسانية للمواطن المصرى» نقلا عن "المصري اليوم"