الإمام مالك بن أنس" (93-179ه) هو شيخ الإسلام وحجة الأمة وإمام دار الهجرة ومفتي الحجاز وسيد الأئمة، ثاني الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي. اشتُهر بعلمه الغزير وقوة حفظه للحديث النبوي وتثبُّته فيه، وكان معروفًا بالصبر والذكاء والهيبة والوقار والأخلاق الحسنة، أثنى عليه كثيرٌ من العلماء منهم الإمام الشافعي بقوله: "إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، ومالك حجة الله على خلقه بعد التابعين". وقال الإمام النووي: "أجمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته، وعظيم سيادته وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والتثبت، وتعظيم حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وُلد الإمام مالك بالمدينةالمنورة سنة 93ه، ونشأ في بيت كان مشتغلًا بعلم الحديث واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، فحفظ القرآن الكريم في صدر حياته، ثم اتجه إلى حفظ الحديث النبوي وتعلُّمِ الفقه الإسلامي، فلازم فقيه المدينةالمنورة ابن هرمز سبع سنين يتعلم عنده، كما أخذ عن كثير من غيره من العلماء كنافع مولى ابن عمر وابن شهاب الزهري، وبعد أن اكتملت دراسته للآثار والفُتيا، وبعد أن شهد له سبعون شيخًا من أهل العلم أنه موضع لذلك، اتخذ له مجلسًا في المسجد النبوي للدرس والإفتاء، وقد عُرف درسُه بالسكينة والوقار واحترام الأحاديث النبوية وإجلالها، وكان يتحرزُ أن يُخطئ في إفتائه ويُكثرُ من قول "لا أدري"، وكان يقول: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". كان درس الإمام مالك بن أنس أول الأمر في المسجد النبوي، ثم صار درسُه في بيته بسبب مرضه الذي لم يكن يعلنه، فقد كان مصابًا بسلس البول، ولم يخبر بذلك إلا يوم وفاته، وعنه قال الإمام مالك: "لولا أني في آخر يوم ما أخبرتكم، مرضي سلس بول، كرهت أن آتي مسجد رسول الله بغير وضوء، وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي". التزم الإمامُ مالك في درسه الوقارَ والسكينةَ، والابتعادَ عن لغو القول وما لا يَحسن بمثله، وكان يرى ذلك لازمًا لطالب العلم، يُروى أنه نصح بعض أولاد أخيه فقال: "تعلّم لذلك العلم الذي علمته السكينة والحلم والوقار"، وكان يقول: "حق على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، أن يكون متبعًا لآثار من مضى، وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح، وبخاصة إذا ذكروا العلم". وكان يتحرز أن يخطئ في إفتاءه، وكان يبتدئ إجابته بقوله: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وكان يكثر من قول "لا أدري"، وقال معن بن عيسى: سمعت مالكًا يقول: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. كما كان الإمام مالك ينهى عن الجدال في الدين ويقول:" المراء والجدال في الدين يذهب بنور العلم من قلب العبد". ورأى قومًا يتجادلون عنده فقام ونفض رداءه وقال: "إنما أنتم في حرب". ويُعدُّ كتابه "الموطأ" من أوائل كتب الحديث النبوي وأشهرها وأصحِّها، حتى قال فيه الإمام الشافعي: "ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صوابًا من موطأ مالك". وقد اعتمد الإمام مالك في فتواه على عدة مصادر تشريعية هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف والعادات، وسد الذرائع، والاستصحاب. وله كتب أخرى منها "رسالته في القدر، والرد على القدرية، وكتابه في النجوم، وحساب مدار الزمان ومنازل القمر. نشأ المذهب المالكي بالمدينةالمنورة موطن الإمام مالك، ثم انتشر في الحجاز وغلب عليه، ثم انتشر انتشارًا واسعًا في إفريقيا والمغرب ثم الأندلس، وانتشر عبر التاريخ في مختلف الآفاق. أما وفاته رحمه الله ، فقد مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يومًا، ثم جاءته منيته، وفي رواية عن بكر بن سليم الصراف قال: دخلنا على مالك في العشية التي قبض فيها، فقلنا: "يا أبا عبد الله كيف تجدك؟، قال: "ما أدري ما أقول لكم، ألا إنكم ستعاينون غدًا من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب"، قال: ما برحنا حتى أغمضناه، وتوفي رحمه الله يوم الأحد لعشر خلون من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة هجرية.