كانت ثورة يناير من أعظم اللحظات في تاريخ مصر الحديث في جلالها وترفعها.. وبعد أسابيع قليلة طفحت على السطح أسوأ مظاهر الانقسام والفوضى والتخلف التي أصابت العقل المصري في السنوات العجاف. لا أتصوّر أن هذه الأرض هي نفسها التي أنجبت أعظم نخبة أضاءت العقل العربي وحرَّرت إرادته ودخلت به إلي زمان جديد بكل ما حملت من روافد الفكر الراقي والإبداع الجميل.. هذه الأرض التي تصارعت فيها كل الأفكار واختلفت فيها كل الرؤى وبقيت على شموخها.. أن الكارثة الحقيقة التي أصابتنا ليست نهب أموالنا وسرقة مواردنا وضياع أعمارنا واختلال منظومة القيم في شوارعنا، أن الأزمة الحقيقية هي هذه الحالة من التردي التي وصل إليها العقل المصري.. أنظر إلى شاشات التليفزيون وأسمع الأحاديث والحكم والمأثورات والأشباح السوداء تطل علينا وخلفها تلال من التخلف والضياع.. من أين جاءت كل هذه الأشباح لتخرج علينا الآن وترجع بنا إلي زمن الشوارع والعقول والبيوت المظلمة أنظر إلى أحوال النخبة وما أصابها من أمراض الانقسامات والضحالة. كنا نختلف كثيرًا ولكن الترفّع كان رسولاً بيننا والقيمة رصيدنا الدائم، والفكر الحقيقي والحوار الجاد وسيلتنا للعلم والمعرفة.. اختلف العقاد مع طه حسين واختلف مندور مع رشاد رشدي واختلف المازني والعقاد مع أحمد شوقي وكان السنباطي شيئًا مختلفًا عن عبدالوهاب وكانت أم كلثوم ملكة الجميع.. وكانت لدينا سماحة خالد محمد خالد ويقين الشيخ شلتوت وزهد عبد الحليم محمود.. وكان لدينا صفاء الشيخ رفعت وجلال مصطفي إسماعيل وعبدالباسط، وكانت لدينا ليلي مراد وفاتن حمامة ويوسف وهبي ورشدي أباظة.. وكان لدينا الأزهر وجامعة القاهرة ودار الكتب والأوبرا وأكبر متاحف التاريخ.. وكانت لدينا مدارس صحفية عريقة شيدها هيكل والتابعي ومصطفي وعلي أمين وأنيس منصور وأحمد بهاء الدين وكامل زهيري.. كان لدينا عقل مستنير جدًا.. رفيع جدا, مؤمن جدا.. لا أدري أين ضاع.. إنها محنة العقل المصري.. أسوأ ما تركت لنا السنوات العجاف. مقالة فاروق جويدة نقلا عن جريدة الأهرام