كلما حاولت أن أتذكر الماضي هارباً من تبعات الحاضر، قلِقاً من مجهولات المستقبل أجدني اتذكر أيام الطفولة ، ففي ذكريات الطفولة وتجاربها البسيطه وملامحها الدافئة مرتع أوسع للذاكرة ومجال عريض يتسع لكل طاقاتي وآمالي وطموحي، ما حققته ومالم أحققه. رغم ما يفصلني عنه من زمن تلوث بفعل الشر الكامن في الدنيا وبفعل القرارات الخاطئة أحياناً والتجارب المؤلمة أحياناً أخرى في زمن مابعد الطفولة. والعودة إلى الطفولة عودة إلى النقاء والصدق، عودة الى نقطة الانطلاق الذكية واليقظة، عودة الى زمن لم تكن تحتل فيه " المادة " هذا الحيز الأسود الكبير من حياتنا ولم يكن الكذب هو الوسيلة الأكثر أمناً للخلاص، والنفاق أحد مؤهلات النجاح ، والمداهنة مصعد سريع للوصول إلى غايات رخيصة ، زمن تختلف معايره كثيراً عن معايير مرحلة النضج والمسئولية. كنا ندرك في زمن الطفولة أن لنا حقوقا" واجبة المنال حتى أنه كان يبكينا عدم قدرتنا على نيلها بسهوله، كنا نظن أن حقوقنا لنا لا يمكن أن تكون غير حاضرة اذا ما طلبناها، فقد كان الحقُ لدينا هو الأصدق والباطل بعيد لا نراه ولا نصدقه. مازلتُ أذكر كيف كنتُ أحاول أن أقبضَ بكلتى يدي على الأبخرة المتصاعدة من التنور الذي كانت أمي تطهي فيه الطعام، وأحاول كذلك ان أمسك بالدخان المنبعث من سيجارة أبي، كما كنت ألمح بانتباه شديد ذرات التراب المتطايرة في عشوائية من خلال شعاع الشمس الذي يخترق غرفتي وقت الظهيرة. كنت أتصور أن بإمكاني الإمساك بهم جميعاً ،كما كانت ظاهرة السراب التي كنت أراها على طول الطريق أثناء السفر تثير انتباهي كثيرا وتترك في خيالي أثراً عميقاً ، أفكر فيها ملياً حتى قبل النوم، ربما لأنها لم تكن صادقة كنت أراها شيئا يستحق التأمل، فكيف يمكن أن أرى ماء حتى إذا اقتربت منه لم أجده كذلك وتتكرر الخديعة على طول الطريق دون تفسير، ودون أن اجد اجابة ترضي عقلي الضئيل وقتذاك. لم تكن جملة تلك الظواهر التي كنت أُشاهدها وكانت تلفت إنتباهي وتستنفر كل حواسي أمراً هينا" بالنسبة لي ، ذلك لأنها كانت تصطدم جميعها مع الثابت الفطري في اخلاقي - في اخلاقنا جميعا نحن الأطفال – ألا وهو الصدق. يقول الرسام العبقري بيكاسو( انني عشت اكثر من ستين عاماً أحاول أن أتعلم كيف أرسم مثل الأطفال) وفي تصوري أن رسم الأطفال ليس صعباً في مكوناته الفنية ولا هو بالغريب في تكوينات ألوانه ولاهو بالأمر الذي يعجز بيكاسو عن محاكاته، وانما الأمر يكمُن في صدقه، فالطفل يرسم مايراه بتلقائية وبساطة دون محاولات لتحسين الصورة التي يرسمها، فالعين عنده تمثل دائرة والفم شفتان غليظتان والشعر خطوط سوداء تتدلى حول الوجه ،والرأس دائرة منبعجة، والشجرة خط طويل ينتهي بورقات متدلية في عشوائية غير منتظمة، الطبيعه لديه يصورها كيفا يراها هو، لا يعيد رسم ما ابتدأه ولا يحسن منه ولا يستعمل الممحاة المنافقة في أغلب ما يرسمه، ذلك أن الممحاة تردد و رفض لقرار اتخذه، الأمر الذي حاول بيكاسو أن يحاكيه وربما لم يستطع. أذكر أنني كنت أستغرق وقتاً في رسم مشاهد من الطبيعة دون إدراك مني لمرور هذا الوقت حتى إذا ما فرغتُ منه أجدني وقد أتممت شيئاً عملاقاً وقيماً من وجهة نظري ، غير عابيء بما أنفقته من الوقت، وأعود إلى مطالعة الرسم من وقت إلى أخر فخوراً بما خطت يدي، راضياً عما نتج مني دون مراجعة ودون استعمالاً لممحاة، فلقد صدقت في نقل المشهد كما رأيته وكما أحسسته. الرابط الوحيد بين هذين الزمنين عندي، الطفولة والآن، هو أنني مازلت أتشبث بحالات الصدق التي كنت أعيشها في طفولتي، ورغم هذا الشوط الطويل الذي قطعه الماضي حتى الوصول إلى الحاضر، ورغم حالات اليأس من استمرار الصحبة بين الصدق والحاضر على طول الطريق، مازالت لدي الرغبه في الإمساك بالأبخرة المتصاعدة من التنور وتأمل ذرات التراب وهي تسري في شعاع الشمس وقت الظهيرة.