قليلون هم الذين إذا ماكتبوا قرأت وإذا ماتكلموا أنصت وإذا ما ساروا إتبعت خطواتهم وإذا ما غابوا إقتفيت آثرهم . قليلون هم المبدعون الذين إذا ما أنتجواً عملاً ، كان له خاصية الإنصهار فيك ، والتغلغل في وجدانك ، الذين إذا شاهدت أعمالهم، أو استمعت إليها تشعر وكأنك تنصت إلى ذاتك الرحبة وكأنك تطًلعُ إلى مرآتك لترى فيها نفسك لتتأمل فيها . أسامة أنور عكاشه واحداً من هؤلاء المبدعين ، واحداً ممن استطاعوا بلطف شديد وبراعة فائقة أن ينفذوا إليك دون أن تشعر أنهم من الذين ساهموا بجدية في تشكيل وجدانك وشخصيتك ، ربما دون أن تدري ! هكذا كانت أعماله ، تغسل ما ترسب فيك من سوء الإختلاط بالرديء وتردك إلى جادة الصواب كلما غلبت عليك أهوائك. في مرور سريع على محطات هامه في أعماله ، سترى كيف عَبّدَ هذا الرجل طريقاً سار فيه جيل كامل من المصريين يبحثون معه عن الحقيقة بشغف ، حاملون سراجاً من الأمل أضاء لهم جنبات الحياة المريرة والمظلمة . أكثر من 70 عملا دراميا وسينمائيا ، خلاف ما قدم للمسرح وما ألف من روايات ومجموعات قصصيه نتذكر منها ( الشهد والدموع ) والصراع الحاد بين أبناء الأسرة الواحده ،هذا الصراع الذي ورثه الأبناء ، وفشلت في مواجهته قصص الحب البريئة بين الأبناء ، عمل درامي بديع صُنِفَ كإحدى روائع الدراما المصرية الخالدة. ثم يأتي دور اجتياح الطبقة الطفيلية والتي ظهرت مع عصر الانفتاح في سبعينيات القرن الماضي والتي جعلت من تاجرة سمك ترفُلُ في الجهل والتخلف واحدة من أثرياء الأسكندريه ولها من الصيت والنفوذ ما جعلها تطمع في إمتلاك قصر لديبلوماسي سابق وتحاول هدمه عُنوه لتشيد مكانه برج سكني شاهق بغرض التربح والمتاجره ، تبنيه على أنقاض كل القيم الأخلاقية والتراثية والثقافية الممثلة في منزل الدكتور أبو الغار ( جميل راتب ) ، هذا الصراع بين القيم المادية والقيم الروحية تفضي في النهايه إلى رفع ( الراية البيضا) ، النهاية التي دائماً ما تترك لك الباب موصداً كي تلِج منه إلى آمال جديده. ثم (رحلة السيد أبو العلا البشري) - النموذج الأمثل للرجل الفاضل ، صاحب القيم الإنسانيه الرفيعه ، والتي يحاول من خلالها القيام بدور إصلاحي للمجتمع الذي يعيش فيه ، و برغم ما يلاقيه من متاعب وما يواجهه من أزمات يظل يكافح طيلة حياته باحثاً عن كل ماهو جميل في الحياة يستحق أن نحيا من أجله ،وتراه في رحلته تلك يرد الظالمين عن ظلمهم ، ويتمسك بالصدق حتى النهايه ، في دراما ممتعه كتبها عكاشه بحرفيه شديدة وبلغة غاية في الرقي والإبهار ثم تأتي ملحمة ( ليالي الحلمية ) بأجزائها الخمسة شاهده على تفوق الرجل وقدرته في نسج العلاقات الإنسانية المتشعبة والمتواصلة عبر طبقات اجتماعية متباينة وأزمنة متتالية .فهي ، ليالي الحلميه ، تمثل دفتر أحوال المصريين منذ أربعينيات القرن العشرين حتى مطلع التسعينيات وهي عمل أدبي متكامل قادر على أن يكون مرجعاً هاماً ليس فقط لكُتًاب الدراما ودارسيها ، ولكن للمؤرخين الجدد كذلك. ثم يكفي أن نذكر ( ضمير أبلة حكمت ) لنتذكر الرائعة فاتن حمامة ودور المعلمة الرائدة التي يتعلم منها أجيال من التلاميذ والمعلمين وكيف يمكن أن تكون المباديء والقيم النبيلة هي المحرك والمرجع الأهم لكافة تفاصيل الحياة الدقيقه . ثم يحكي لنا أسامة انور عكاشة عن الحِرَف النادرة وحركة الأزميل في ثنايا الخشب العتيق مشكلاً التحف الفنية المبهرة ( الأرابيسك ) ، وعلاقة الفن بالحارة المصرية ، وقيمة اتقان الصنعة ، ودلالة التمسك بتاريخنا من خلال ( كرسي عتيق ) ُفقِد في لحظة غفلة ، مثًلتْ تلك اللحظة حالة انهيار لجزء أصيل من تراثنا الثقافي وأحد اهم أسرار تفوقنا الذي كان ،كما شكلت محاولات استرجاع هذ الكنز رحلة طويلة من البحث في أنفسنا عن القيم النبيله والفاضلة والوقوف على قيمة العمل وقَدْرِه. .كان عكاشه ينتقي مفرداته وعباراته وأمثاله ، حتى حينما كتب ( عفاريت السياله ) لم ينتق من القاموس الشعبي إلا مفرداته اللطيفة ، الفكاهية ، البسيطة والدالة على عمق الثقافة الشعبية التلقائية لدى المصريين ، لأنه كان يدرك أن أعماله تدخل كل البيوت المصرية والعربية ، يراها كل الناس في مصر وفي العالم العربي أجمع. يمكننا بأريحيه شديدة أن نقول مطمئنين أن أسامة أنور عكاشة صنع حالة مصرية فريدة في بيوت المصريين ، حاله من الدفء والرضى والمتعة ، ربما لم نرها مره أخرى منذ رحل عن عالمنا . هذا غيث من فيض تركه لنا أسامة أنور عكاشة ، ربما نتذكره الآن في ذكراه السادسة التي ستحل بعد أيام قليلة ، وتتزامن مع دخول شهر رمضان الذي طالما أمتعنا فيه بأعماله ، علًنا نجد في ذكراه عِوضاً عن غث درامي كبير لاحت تباشيره في الأفق . رحم الله الرجل وعوضنا عنه خيراً