تحدثنا في المقالات الثلاثة السابقة التي جاءت بعنوان حتى يكون لكلامنا فائدة (1)، (2)، (3)، عن أركان (المعلومات) و(الصحة) و(الصلة) من أركان "المبدأ التعاوني" كما حددها بول جرايس، وبيّنا أهمية كل ركن منها في تحقيق التعاون بين المشتركين في مختلف النقاشات، وكيف أن مراعاتها ستضفي نوعًا من الود على تلك المحادثات، وستكسب المرء ثقة من حوله في صحة معلوماته، وستزيد من معارف ومعلومات المنصتين في المحادثات التي لا يعلمون معلومات كافية عن موضوعاتها. وفي مقال اليوم نناقش النصيحة الأولى والثانية من الركن الرابع وهو (الوضوح). يلخّص بول جرايس ركن الوضوح في أربع نصائح مباشرة، هي: (تجنب استخدام التعبيرات الغامضة)، (تجنب الغموض)، (اجعل كلامك موجزًا)، (اجعل كلامك مرتبًا). وفي الفقرات التالية نتناول النصيحة الأولى والثانية بالشرح والتوضيح. فأما النصيحة الأولى (تجنب استخدام التعبيرات الغامضة) فإننا نعتقد أنها تعالج ظاهرة تفشت في حواراتنا بصورة درامية للغاية لدرجة أنه لا تكاد تخلو محادثة بين الشباب اليوم من إحدى العبارات الغامضة التي لا يستطيع الفرد –مهما بلغت قوة صلته بقائلها– أن يفسرها وإن اجتهد في ذلك. كم مرة، عزيزي القارئ، صارحت أحد أصحابك بشيء يقلقك، أو قصصت عليه ما يؤرقك، فرد عليك رد الواثق: (طيب سيبني وأنا هتصرف في الموضوع ده، أنا هخلص لك الموضوع ده، خلاص الحوار ده عندي، وغيرها من العبارات) ثم إنه لا يوضح مطلقًا كيف "سيتصرف" في الموضوع، ولا كيف سيعالجه، وهو ما يجعل تلك العبارات غير الواضحة بابًا كبيرًا للاختلاف بعد ذلك بينك وبينه. فإذا ما تدخل وأفسد الأمور بدلًا من أن يصلحها فلا يكون لك أن تلومه، فقد أطلقت له عنان التصرف عندما لم تسأله: كيف ستعالج الأمر؟ ما هي خطتك للتدخل؟ إن هذه الأسئلة من شأنها أن ترسم حدود التدخل المتوقع من صديقك في الأمر الذي أنهكك ولم تجد له حلًا، ثم إنها ستحدد المسموح وغير المسموح له في تدخله، وتمنع عنك حرج الوقوع في مزيد من القلق والحيرة التي قد يتسبب بها هو بتدخل غير عاقل أو متزن، ثم إنها تعطيك الحق في لومه ومعاتبته لو تعدى الحدود التي اتفقتم عليها في التدخل من البداية. وبالمثل، فإن الغموض عمومًا من أكثر الأمور التي أصبحت تشوب التعاملات الخدمية بين الأفراد حتى أوشكت أن أعتقد أنها أكبر المشكلات على الإطلاق في التعاملات الخدمية اليومية. ففي كل مرة تقريبًا تطلب من أحد النجّارين أو السبّاكين أو غيرهم أن يؤدي لك عملًا ما، ثم تتفقا على تفاصيل العمل واليوم والساعة المحددتين له، يأتي دور الاتفاق على المقابل المادي للعمل. وهنا يكون الرد الجاهز دائمًا هو (مش هنختلف). لكن ما الداعي لهذا الغموض؟ ولماذا لا يكون كل شيء في غاية الوضوح قبل التعامل؟ إن من حق من تؤدَى له الخدمة أن يعرف المقابل المادي الذي يطلبه الحرفيّ تمامًا حتى يدبّر أموره ويعطي الحرفيّ حقه غير منقوص، وحتى يتجنب الطرفان أي نزاع على الأجرة المستحقة بعد أداء العمل، هذا النزاع الذي تثبت الأيام أنه يبدأ بمشادة كلامية وقد ينتهي في أروقة المحاكم. وأخيرًا، إن ثقتنا في أصحابنا ومعارفنا ليست مسوغًا أبدًا أن نترك لهم حرية التصرف في ما يؤرقنا من أمور، كما أن اتفاقنا معهم على ضوابط تدخلهم –مشكورين– في الأمور التي نعجز عن حلها لا يُعد أبدًا تقليلًا من شأنهم أو شكًا في قدراتهم، لكنه الوضوح، الوضوح الذي لا يجب أن يضايق أحدًا كائنّا من كان. كما أن الاتفاق على التفاصيل التي من المتوقع أن تكون محلًا للخلاف من شيم العقلاء، وقديمًا قالوا: (اللي أوله شرط آخره نور)، أنار الله بصائرنا جميعًا وهدانا إلى سواء السبيل.