كان طالبا نابغا وذكيا، ولكنه فقير من أسرة معدمة من قرية مصرية صغيرة، حاله حال الكثير من بني جلدته.. في يوم من الأيام وجدته حزينا شاردًا فسألته ما أحزنك يا بني فأبلغني أن أسرته الفقيرة لم تعد تقدر على مصاريف تعليمه، وهنا قررت أن أتدخل لعرض الموضوع على عمدة القرية وأكابرها لننقذ ما يمكن إنقاذه «مستقبله وحياته». وتبادر إلى ذهني مجموعة من الأسئلة عن «ماذا سيحدث إذا ترك تعليمه واشتغل في مهنة حرفية ؟»، فالقرية تأن من وطأة الجهل والفقر، لذلك قرر كبيرها أن نقتطع جزءًا من دخل كل أسرة لكي نستثمر في «فطين» وبالفعل أبلغت فطين الذي طار فرحًا، وسرعان ما بادر بوعده لي «سأظل بارًا بقريتي طول العمر». وهنا بدأت رحلة فطين في استكمال تعليمه، فالتحق بكلية الطب ومرت السنين والأيام، والكل يضحي من أجله ويسهر على راحته، يقدم كل غالٍ ونفيس، من أجل لحظة يصبح فيها «فطين» طبيب القرية، وحاميها في وجه كل مرضٍ لعين. وللحق لم ينكر «فطين» ذلك، فكان الابن البار الذي يعود في كل إجازة ليمكث معنا، ونلحظ منه تغيرٌ عظيما في فكره وسلوكه، حتى تخرج من كلية الطب، وهنا اعتقدنا أنه بلغ قمة نجاحه، لكنه فاجأنا بقراره الطموح، وهو استكمال تعليمه في الخارج فوافقنا فورا وعلى نفقتنا أيضا، وأصبح فطين حلم القرية بأكملها. الحلم بدأ يكبر رويدًا رويدًا، عندما يعود ستتحول المستشفى المتهالكة التي تقع على أطراف البلدة، والأطباء قليلو الخبرة، إلى صرح طبي، يقوده خليفة محمد غنيم أو مجدي يعقوب ولما لا وأهالي القرية يرونه كذلك. هنا جاءت ساعة الحسم.. تخرج «فطين» وحصل على درجة الدكتوراه من أمريكا، وذهبت لمقابلته وأبلغته أن يتسلم عمله في القرية، وكنت أظن حينها أنه سيكون أول المرحبين بل سيبادر إلى طلب ذلك، ولكني فوجئت بإنسان جديد، ناقمٌ على كل ما هو موجود بالقرية «الأهل والمكان»، حتي من أعطوه من قوتهم اليومي، وأنه حضر ليشكرنا ويودعنا فقط؛ لأنه قرر الهجرة إلي بلاد العم سام، وبدأ يحكي عن مدي احتياجهم له وأن وجوده هناك سيخدمنا أكثر وإن القرية في حالة يرثي لها من بيروقراطية وتخلف إداري لن يستطيع خلاله أن يظهر إبداعه العلمي، وبكلمات حزينة قال: سأرسل العطايا والهدايا إليكم مع كل إجازة. «فطين» لم يكن مجرد شخص، وإنما أشخاص تجسدت في مسمى واحد تعبيرًا عن الحالة التي نعيشها يوما تلو الآخر، شباب يخرجون للتعلم، حتي يصيروا علماء يلهث وراءهم العالم، يأخذون المكان الذي يستحقونه، ثم لا يعودون إلى وطنهم الأم، لماذا !. تألمت عندما علمت أن مصر تدفع فاتورة باهظة الثمن بسبب ظاهرة هروب علمائها إلي الخارج، حيث يوجد الآن حوالي 86000 عالم طبقا لبيانات مركز الإحصاء التابع للأمم المتحدة، فدائما وأبدا نعلق الفشل على المسؤولين لكن هذه المرة اسمحوا لي أن أحلل هذه الظاهرة بقراءة مختلفة، فإذا كانت مصر ترسل خيرة أبنائها إلي أمريكا وأوروبا في بعثات علمية سنويا لمدة 4 سنوات أو حتى 5، يُحصّل العلم ثم تنتهي بعثته وعليه أن يعود إليها للتدريس في الجامعة ويجد نفسه بين خيارات متعددة، هنا أسأل هل يقبل بالعودة للوطن والتدريس بالجامعة وتحمل صعوبة العيشة والمرتبات المتدنية أم العرض الأمريكي أو الأوروبي بالعمل هناك ؟. وبالطبع لا فهو لهذه الدول كنز يبحث عن مكتشف.. مواطن ولد ومعه الدكتوراه بأموال أهله الكادحين، ومن هنا تبدأ فكرة الهروب تلمع في ذهن الابن البار ويبدأ التمرد علي جامعته وأقرانه كما أنه عندما يرغب في أن يعود للوطن بعد حين، سيملي شروطه كونه «خبير خواجة»، وسينسى دور الأساتذة الذين جاهدوا وضحوا في هذا الوطن من أجله. «لم يكن أبدا (فطين) بارًا بوطنه بل كان عاقًا منذ أن تخلد في ذهنه الهروب، فلا يجب أن نفتح قلوبنا أو عقولنا إلا لمن يعمل لخدمة بلدنا العزيزة مصر بالأفعال وليس بالأقوال». بقلم ...أ.د أسامة أمام رئيس قسم نظم المعلومات ومدير التعليم الالكتروني جامعة حلوان