إن قمة رأس هرم القيم في الثقافة الليبرالية المعاصرة هي الحرية، فهي رأس كل شيء ثم يأتي بعدها ويتشكل ويصطبغ بمنطقها كل شيء، لكن هل الحرية مطلقة حتي نضع علي رأس هرم القيم ما لا يقبل الإطلاق؟ وكيف نقبل أن تتشكل القيم الأخري، رغم أهيمتها البالغة بقيمة نسبية تخضع لموازين المصالح والأهواء؟ فلا يمكننا الحديث عن الحرية المطلقة، والكل يقر بأن حرية الفرد تقف عند حدود حريات الآخرين أي لا يوجد فيها ثمة إطلاق. وأن الحرية في الإسلام مكفولة لكل الناس بموجب إنسانيتهم ولمجرد أن أمهاتهم قد ولدتهم أحراراً، وأن هناك شيئاً آخر أعلي من الحرية ويأتي علي رأس هرم القيم وهو العدل، وبمقياس العدل تقاس سائر القيم ومنها الحرية، وإذا كانت الحرية تعرف لها حدوداً، فلا توجد حدود للعدالة، فهي أصدق تعبير عن القيمة المطلقة. والعدل هو رأس القيم في النظام الإسلامي، وإذا قلنا إن العدل هو رأس القيم، فمعني ذلك أننا لا نستطيع كأمة، أن نرتقي إلي رأس هرم العالم إلا إذا عشنا رأس هرم قيمنا، فكل أمة ترتقي في العالم بقدر التزامها الصادق وتطبيقها رأس هرم قيمها، وما علو الثقافة الليبرالية المعاصرة واعتلاؤها هرم العالم عنا ببعيد والعدل في أبسط معانيه إعطاء كل ذي حق حقه. فكل صاحب حق لا يختلف عن صاحب حق آخر في الحصول علي حقه، أو هو المساواة بين التصرف وما يقتضيه الحق دون زيادة أو نقصان، فإن زاد علي ذلك سمي الفضل والإحسان. ومن أجل ذلك كان الميزان رمزاً لإقامة العدل، وهي ليست مساواة حسابية بين كفتي الميزان، وإنما مساواة تزن قيم الأشياء وقيم الأعمال بالاستناد إلي قواعد الحق، فمتي تساوت كفتا الميزان استقامت إشارة العدل، والذي يريد أن يسوي بين الأمور، رغم اختلاف قيمتها الذاتية، مثله كمثل من يسوي في القيمة بين الذهب والحجر، بدافع تكافؤهما في الوزن المادي. فالهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتاب للهداية وميزان العدل ليقوم الناس بالقسط. فالعدل كما عبر عنه الإمام علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه : «أساس به قوام العالم، إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ونصبه لإقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطان. والعدل هو اسم الله تعالي، وهو أحد صفات المؤمنين الذين يحبهم الله تعالي، فيتحول العدل إلي ظاهرة عملية متكررة في سلوك الفرد والجماعة وخلق من الأخلاق المتمكنة فيه. ومن ثم يتحقق العدل عند الإنسان باستواء صفتي الغضب والشهوة علي مقتضي الشرع بدلالة وتوجيه العقل، فأصول الأخلاق عند الإمام الغزالي ترجع إلي الشجاعة والعفة، فالشجاعة هي اعتدال الغضب، والعفة اعتدال الشهوة، واستواء الغضب والشهوة بدلالة العقل، وعلي مقتضي الشرع هو وسيلة تحقق العدل عند الأفراد والجماعات. فالمؤمن مأمور بتحري العدل في علاقته بالإنسان بموجب إنسانيته، وبالحيوان وبالبيئة المحيطة به، وما حث القرآن علي الاعتدال والتوسط في المأكل والمشرب، وحث الرسول- عليه الصلاة والسلام- علي عدم الإسراف في الوضوء ولو كنت علي نهر جار، أو ما حكاه عليه الصلاة والسلام من المرأة التي دخلت النار في قطة أو الرجل الذي سقي الكلب فشكر الله له، إلا نماذج لتحقق العدالة في الإسلام. ولهذا يترتب علي تحقيق العدالة الأمان والطمأنينة، كما في مقولة رسول ملك الروم إلي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، والتي نعهدها في كل الكتابات : «حكمت فعدلت فآمنت فنمت يا عمر»، لأن دخول العدالة في كل التعاملات الإنسانية الهدف منها وثمرتها إشعار الفرد بالثقة والطمأنينة، فالثقة بمعني الشعور بالاستقرار والمعرفة المسبقة بالحقوق والواجبات، ثم الطمأنينة بمعني احترام الحقوق والحريات، ومن ثم تحقق الأمان لكل أفراد المجتمع. فالعدل مشعر للناس بالاطمئنان والاستقرار، وحافز كبير لهم علي الإقبال علي العمل والإنتاج، فيترتب علي ذلك: نماء العمران واتساعه، وكثرة الخيرات وزيادة الأموال والأرزاق، ولا يخفي أن المال والعمل، من أكبر العوامل لتقدم الدول وازدهارها، بينما في المقابل تكون عواقب الاعتداء علي أموال الناس وممتلكاتهم، وغمطهم حقوقهم، هي الإحجام عن العمل، والركود عن الحركة والنشاط، لفقد الشعور بالاطمئنان والثقة بين الناس. وهذا يؤدي بدوره إلي الكساد الاقتصادي، والتأخر العمراني، والتعثر السياسي.