اتحاد منتجي الدواجن: ارتفاع أسعار الفراخ 20% بسبب قطع الكهرباء    الأصفر هيجننا.. ارتفاع سعر الذهب اليوم في محلات الصاغة المصرية    الأخضر بكام؟.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 6 يونيو    مجزرة جديدة.. عشرات الشهداء يسقطون في قصف إسرائيلي لمدرسة ل«أونروا» بغزة    رئيس وزراء سلوفاكيا يحمل المعارضة المسؤولية جزئيا عن محاولة اغتياله    هشام نصر: أتمني موافقة نجلي على تولي منصب المدير الإداري.. ورحيل عبدالباري ليس تصفية حسابات    موعد مباراة الإمارات ونيبال في تصفيات كأس العالم والقنوات الناقلة    ناقد رياضي: قلق من كثرة الزيارات لمعسكر منتخب مصر وتوقعات بخطة جديدة أمام بوركينا    نجم الإسماعيلي: تلقيت عروضًا من الأهلي والزمالك.. وهذا قراري    طقس اليوم.. شديد الحرارة نهارا مائل للحرارة ليلا على أغلب الأنحاء    رابط نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة المنوفية الترم الثاني 2024    مواعيد صلاة عيد الأضحى 2024 في جميع المحافظات    مبادرات رسمت ملامح الزراعة الحديثة في مصر.. الرئيس السيسي مر من هنا    الصحة العالمية تعلن وفاة أول حالة مؤكدة لمتحور أنفلونزا الطيور    رجل الأعمال باسل سماقية يحتفل بخطبة ابنته (صور)    حزمة قرارات جديدة من قناة السويس تعرف عليها (تفاصيل)    رئيس برلمان سلوفينيا: الاعتراف بالدولة الفلسطينية قرار في غاية الأهمية بالنسبة لنا    حاتم صلاح يوجه رسالة ل أحمد فهمي بعد مشاركته في فيلم «عصابة الماكس»    «موجوع لفراقك».. محمد صبحي يوجه رسالة مؤثرة للفنانة الراحلة سعاد نصر    لماذا اخفى الله قبور الأنبياء إلا قبر سيدنا محمد؟ أمين الفتوى يجيب    وزير خارجية قبرص: نعمل على تهيئة الظروف للانتهاء من المشروعات المشتركة مع مصر    خطة بايدن لوقف إطلاق النار بغزة.. حماس تسمع عنها في الإعلام ونتنياهو يسعى لوفاتها قبل أن تولد    «بايك» تُعلن التحدى مع «ألكان أوتو» فى مصر    ضبط المتهم بتشويه مطلقته بمادة كاوية فى منشأة القناطر    رئيس جامعة سوهاج يتسلم جائزة مؤسسة الأمير محمد بن فهد لأفضل إنتاج علمي    البابا تواضروس يكشف كواليس اجتماع 3 يوليو في وزارة الدفاع    البابا تواضروس: سألنا مرسي عن 30 يونيو قال "عادي يوم وهيعدي"    بوسي تستعرض جمالها في أحدث ظهور لها والجمهور يعلق (صور)    ملف رياضة مصراوي.. تصريحات صلاح.. مؤتمر حسام حسن.. تشكيل منتخب مصر المتوقع    واجبات الحج الأربعة.. معلومات وأحكام شرعية مهمة يوضحها علي جمعة    الأزهر للفتوى: الاجتهاد في السعي على طلب الرزق في الحر الشديد له ثواب عظيم    10 % نسبة الزيادة المحتملة، موعد إعلان أسعار البنزين والسولار الجديدة    البابا تواضروس يروى كواليس اجتماعه في وزارة الدفاع يوم 3 يوليو    احتراق 25 فدانًا فى الوادى الجديد    مسئولون أمريكيون: بايدن أعلن مقترح غزة دون الحصول على موافقة نتنياهو    لأسباب شخصية وعائلية .. ممثل الكيان الصهيونى يستقيل من منصبه في "العدل الدولية"    هشام نصر يكشف مفاجأة: الزمالك لم يتم التعاقد مع محترف فريق الطائرة حتى الآن    «الأهلي» يكشف تفاصيل تجديد كبار الفريق.. وموقف علي معلول    مهرجان جمعية الفيلم يعرض فيلم «شماريخ» تحت شعار «تحيا المقاومة لتحيا فلسطين» (تفاصيل)    حظك اليوم برج الأسد الخميس 6-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    عبدالله السعيد: بعد رحيلي عن الأهلي سقف الرواتب "اتضرب"    ملخص وأهداف مباراة فرنسا ضد لوكسمبرج الودية    «الرى» تُنشئ 20 محطة مياه وسدودًا لحصاد الأمطار بجنوب السودان    تنسيق الثانوية العامة محافظة الشرقية 2024-2025 بعد ظهور نتيجة الشهادة الإعدادية (التوقعات)    منعًا لتلف المحرك.. تعرفي على الوقت الصحيح لتشغيل الثلاجة بعد التنظيف    وزير الصحة يستقبل نظيره الزيمبابوي لبحث سبل التعاون وتبادل الخبرات بين البلدين    أكرم القصاص: طلبات المصريين من الحكومة بسيطة..والفترة الماضية شهدت انخفاض فى الأسعار    البابا تواضروس: أخبرت نائب محمد مرسي عن أهمية ثقة المواطن في المسئول فصمت    إيه هو مشروع فالي تاورز وليه سعره لُقطة.. فيديو    تاكيدًا لانفراد «بوابة أخبار اليوم».. تفاصيل العثور على جثة الشاب السعودي «هتان شطا»    عيد الأضحى 2024.. الشروط الواجب توافرها عند الذبح    السفارة الأمريكية: إطلاق مبادرة جديدة للقضاء على العنف ضد النساء والفتيات    «سقط من نظري».. البابا تواضروس يروي موقفًا صادمًا مع «مرسي»    حظك اليوم| برج الثور الخميس 6 يونيو.. «يومًا أكثر استقرارًا وانتاجية»    أخبار × 24 ساعة.. هيئة الدواء: تسعير الأدوية جبرى وإجراءات ضد المخالفين    رئيس شعبة الدواء: لدينا 17 ألف صنف.. والأدوية المصرية نفس جودة الأجنبية    شاب متهور يدهس عاملا بالتجمع الأول أثناء استعراضه بالسيارة في الشارع    السعودية ومصر تعلنان موعد غرة ذي الحجة وعيد الأضحى 2024 غدًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيخ الأزهر: صناعة الفتوى السليمة كفيلة بترغيب الناس في الالتزام بالشرع الحنيف
نشر في صدى البلد يوم 17 - 08 - 2015

قال الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، إنه مارس تجربة الإفتاء لمدة عام ونصف، وعمل مفتيا لدار الإفتاء المصرية، في مطلع هذا القرن الذي بدأ مسيرته متعثرًا مضطربًا، يستقيم ممشاه حينًا، وينكص على عَقِبَيْه أَحايِينَ كثيرة، ولايزال حتى يوم الناس هذا، ينذر بويلات وكوارث، عرفنا قوادمها الكالحة، ولازلنا نجهل ما تكنه خوافيها المتربصةُ بنا من وراء جدر المستقبل، وحُجب الغيب.
وأضاف شيخ الأزهر خلال كلمته في المؤتمر الإفتاء العالمي المنعقد حاليا بفندق الماسة، بعنوان «إشكاليات الفتوى في الواقع المعاصر وطموحاتها في المستقبل»، مؤكدًا أن عنوان هذا المؤتمر بالغ الدلالة على ضرورة رصد واقع الفتوى، ومشكلاته التي لاتزال تُلقي بشيء غير قليل من العنت على حياة المسلمين.
وأضاف رغم أنني لم أسع إلى موقع الإفتاء ولم أفكر فيه، إلَّا أن الله تعالى شاءه وقدره، وكثيرًا ما كنت أتهيبه وأخافه، لا من الناحية الفقهية والعلمية، التي يجيدها أي أزهري من جيلي أمضى تسع سنوات في دراسة الفقه، يتلقى فيها هذا العلم خمس مرات في الأسبوع على طول سنوات دراسية تسع، ولكن كان كل تخوفي هو أنْ أُحِلَّ حَرامًا أو أُحَرِّم حَلالًا، أو أُيَسِّر أو أُعَسِّر في غير محل التيسير والتعسير..
وتابع: وكثيرًا ما كنت أتسلى عن خوفي وتهيبي بحديث الصحابي الجليل عبد الرحمن ابن سَمُرَة، عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا».
وكنت – ولا أزال – دائم التأمل في خفايا هذا المنصب الشديد الخطورة على حياة الناس، وذلك لما لمنصب الإفتاء في قلوب المسلمين من منازلِ التقدير، ومشاعر التعظيم والإجلال.. حتى إن الكلمة التي تصدر من فم المفتي لتقطع كل جدل أو خلاف أو تردُّد، في المسائل المستفتى عنها، ولايزالُ النَّاس يستقبلون فتاوى المفتين المعتمدين استقبالهم لصحيح الدين الذي لا معقب عليه، وهذا ما يجعل من الفتوى والإفتاء أمانة شاقة، ومسؤولية ثقيلة يُشفِقُ منها كل من يخشى الله، ويتقيه ويخافُ حسابه وعقابه.
وأوضح الإمام الأكبر: أدركتُ من خلال قراءتي في سيرة الإفتاء والمفتين أن التحرُّج والتأثم كانا عُدَّةَ المفتي وعَتَادَه، ومَنْبعَ اطمئنانه، ورضاه عن كلِّ ما يصدر عنه من فتاوى، وإجاباتٍ على أسئلة الناس.. كما كانا مفترقَ طريق تضل فيه الفتوى، بين طرفي الإفراط والتفريط، ضلالًا مُبينًا، وتتذبذبُ بين التضييق والتَّشدُّد بدعوى الورع، والوقوف المقدس عند عَتبَاتِ السَّابقينِ وفتاواهُم، وبين التوسع والترخص بدعوى العصرنة ومواكبة التطوُّر، و «كِلَا طرفَيْ قصد الأمور ذميمُ» كما يقول شاعرنا القديم.
واستطرد بيد أن هذا التخوُّفُ قد أدَّى – في كثير من الأحيان - إلى الإحجام عن النظر الفقهي الدقيق في الفتوى، وانتهاج طريقٍ سهلٍ يريحُ من عَنَاء البحث في تكييف السؤال، والتنقيبِ عن حُكْمِه ودَليلِه، وتنزيله على الواقع، حتى صارت بعضُ الفتاوى في قضايا المجتمع المعاصر –تحريمًا أو إباحةً – لا يُكلف الباحث أكثر من العودة إلى ما قيل في أشباهها من أقوال السابقين ولو لأدنى ملابسةٍ، ولا سَنَدَ للباحث إلَّا بعض مشتركات، أو أَوجُهٍ شَبَهٍ ضعيفةٍ، لا تجعلُ من المسألةِ التي هي محلّ الاستفتاء، والمسألةِ المَقِيسِ عليها قضيتين متماثلتين، تنطبقُ عليهما القاعدة العَقْليَّةُ التي تقرِّر أنَّ «حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد».
وأصبح من المُعتَاد أنَّ كثيرًا من الفتاوى التي تحتملُ التيسيرَ والتعسير، يُفتَى فيها بالتعسيرِ أو بالأحوط تورُّعًا، ومن باب سدِّ الذرائع ومتابعةِ الخَلَفِ للسلف.. مع أن التعسير الذي يظنه المفتي إبراءً لذمَّته أمام الله تعالى، هو بعينِه التعسير الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وحذَّر منه في حديثِهِ الشَّريف: «يَسِّروا ولَا تُعَسِّروا»، وتوعَّد من يشق على أمته بالويل والثُّبُورِ، ودعا عليه في الحديث الصَّحيح: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ من أمْر أُمَّتي شَيْئا، فَشَقَّ عليهم، فَاشْقُقْ عليه».
وليسَ صحيحًا أنَّ المَشقَّة التي حذَّر منها الحديث الشَّريف قاصرةٌ على من يَشُقُّ على النَّاس في حياتهم العملية وفي معيشتهم، بل هي تنطبقُ تمامَ الانطباقِ على من يَشُقُّ عليهم بفتوى شرعيَّة ترهقهم من أمرهم عُسْرًا، أو توقعهم في الحرج الذي قامت الشريعة على نفيه ورفعه.
واستطرد: مِمَّا لَا شَكَّ فيه أنَّه لَا يوجدُ مشتغلٌ بالإفتاء إلَّا ويحفظ عن ظهر قلب ما هو مُسَلَّمٌ عند الفقهاء والأصوليين، من أنَّ الحُكْمَ يدورُ مع العِلَّة وُجودًا وعدَمًا، فإنْ وُجدَت العِلَّة وُجِدَ الحُكْمُ، وإنْ انتفت العِلَّة انتفى الحُكْم، ورغم ذلك لا زالت الفتاوى في مسائل عِدَّة تتذبذب بين الحل والحرمة، وتترك الناس في حالة من الشعور المضطرب المتأرجح بين الطمأنينة والحرج.
وضرب مثلًا اقتناء التُّحف والمجسمات التي على شكل التماثيل، أو التكسب من مهنة التَّصوير، في ظل ما شاهدناه بالأمس البعيد ونشاهده اليوم على شاشات التلفاز من تَدمير آثارٍ ذات قيمة تاريخية كبرى في ميزان الفن المعاصر، وكان تدميرها بفتاوى باسم الإسلام وشريعته، ولَمْ نسمع أنَّ مَجْمَعًا فِقهيًّا عقد اجتماعاً دُعي فيه فقهاء العصر وشيوخ الفتوى في عالمنا الإسلامي لبيان الحكم الشرعي في هذه النازلة، فيما حدث، وفي ظل متغيرات عالمية وأعراف استقرت على إنشاء كلياتٍ للآثار وللفنون الجميلة ولصناعة السياحة، مما أوقع المسلمين في حيرة من أمرهم حيال هذه المجسمات: هل هي مُجرَّد تُحَف لا بأس من اقتنائها شرعًا، أو هي أصنام وأوثان لا يجوز للمسلم أن يتعامل معها بحالٍ من الأحوال؟!.
وألمح إلى أنه لايزال بعض المعنيين بالإفتاء يصادرون بالتحريم المطلق، مع أن المقام مقام بحث وتنظير وتفتيش عن وجود العِلَّة أو عدمها، وهو يسبق بالضرورة مرحلة صدور هذه الأحكام التي تصدر وكأنها أحكامٌ تعبدية، وأمرٌ أمرنا به الشارعُ، ولا نَعْقِلْ لها معنى، وليست من قَبِيلِ الأحكام التعليلية التي ترتبط بعللها وُجودًا وعدمًا.. وتحريم صناعة التماثيل في صدر الإسلام – في غالب الظن- إنما كان مُعَلَّلًا بما اسْتَقرَّت عليه عادة العرب في ذلكم الوقت من عبادة الأصنام وصناعتها، واتخاذها آلهة تعبد من دون الله، وكان من المتوقع، بل من المُحَتَّم أن يحرِّم الشرع الحنيف صناعتها، من باب سد الذرائع وتجفيف منابع الشرك، وحمايةِ الوليد الجديد الذي هو «التَّوحيد»، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي علة التحريم الآن بعد أن استقر الإسلام، وتغلغل «التوحيد» في العقول والقلوب والمشاعر، وتلاشت عبادة التماثيل عند المسلمين جميعًا!!.
وأضاف: ونَحْنُ نَعْلَم أنَّه قد مضى على المُسْلِمين الآن ما يقارب خمسة عشر قرنًا هجريًا من الزمان، لم نسمع أو نقرأ أن مسلمًا واحدًا عكف على تمثال يعبده من دون الله، ويتخذه له شريكًا، ثم يدَّعي أنه يحتفظ بإسلامه، فهذا أبعد شيء عن أي مسلم ينطق بالشهادتين، بل هو المستحيل الذي تشهد له أدلة النقل، فقد طمأننا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يتركنا إلى الرفيق الأعلى، وأقسم بالله على ذلك، فقال في حديث معجز، رواه البُخاري ومُسلم( عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا»،{أي: الدنيا}، وفي ظل القَسَم النَّبوي الشَّريف تصبح دعاوى بعض الغلاة في الخوف على المسلمين من الشِّرك سفسطاتٍ فارغةَ المحتوى والمضمون، وعبثًا يُهدر فيه المال والجهد والوقت، دع عنك الآثار البالغة السوء في إثارة الفتنة بين المسلمين، وتعميق الفرقة والخلاف بينهم.
وأكد شيخ الأزهر: أنِّي لأعتقد أنَّه من حق المسلمين عليكم -أصحاب السماحة من أهل الاجتهاد والفتوى- أنْ تُجَدِّدوا النَّظَر في هذه القضايا وأمثالها، فإن وُجد قاطع صريح لا يحتمل التأويل بحال، فلا كلام ولا نظر ولا تجديد، ولا يسع المسلمَ -حينئذ- إلَّا أنْ يُسَلِّم لله ورسوله طائعًا مختارًا.. وإن لم يوجد قاطع، فالمسؤولية أمام الله تُحَتِّم التيسير على المسلمين في هذا الزمان، ما دام هذا التيسير في إطار المقاصد الشرعية والقواعد الكلية، بعيدًا كل البُعد عن التقليد المعصوب العينين، والجمود على ظواهر النصوص دون استشراف لآفاق التيسير ورفع الحرج ومراعاة الأحوال، والتي تختزنها هذه الظواهر أنفسها، غير أنَّها تحتاج إلى مَن يكتشفها وينزل بها إلى واقع الناس.
ولستم في حاجة – أصحاب السماحة المؤتمنين على صناعة الفتوى – أن أذكر بأن التساهل في فتاوى التكفير والتفسيق والتبديع، وتَصَيُّدِ الغرائب التي تَدْعم هذه الفتاوى من تراثنا، قد آل بنا إلى ما ترون من قتل واستحلال للدماء المعصومة باسم الكفر والخروج عن المِلَّة.
وأمرٌ آخر لفت نظري، وهو مسألة «العُرف»، وخطرَه البالغ على تكييف الفتوى وجنوحها إلى التَّشدُّد والتَّعسير، ومكمنُ الخطر هو أن قاعدَة ت «غير الفتوى بتغير العُرف»، أصبحت قاعدة شبه مُهْمَلة أو هي نادرة التطبيق في الفتوى، وإن طبقت روعي فيها عرف خاص ببلدٍ مُعَيَّنٍ، يُرَاد له أنْ تُعَمَّم فتواه، كما هي، على بلد آخر لا يسود فيه هذا العرف، مما تسبب في حالة من الفوضى والارتباك عند الجماهير، حين يحاول –مثلًا – عُلَمَاءُ بلدٍ ما أن يستقلوا بفتوى مخالفة ترتبط بأعرافهم وعاداتهم، ويزداد الأمر سوءًا في حالة الانقسام الحاد بين فريقين، يتبع أحدهما فتوى بلده بينما يتبع الآخر فتوى البلد الثاني، وليت الأمر يقف عند مجرد اختيار هذه الفتوى أو تلك، ولكن سرعان ما يصير الأمر إلى تخطئة كُلٍّ من الفريقين لفتوى الفريق الآخر، وربما يصير الأمر إلى الاتهام بالفِسق والابتداع، أو التشدُّد والتنطع، والسبب في هذه المأساة هو فرض فتوى صاغها عرف خاص في بلد معين، على بلدان لا عهد لها بهذا العرف من قريب أو بعيد.
وقرَّر شيخنا الفقيه الأصولي المدقق، العالم الجليل أحمد فهمي أبو سنة في كتابه المتفرد في عرض نظريته في التشريع الإسلامي والمعنون ب: «العرف والعادة في رأي الفقهاء» - قرر أن العرف أصل شرعي في بناء التشريع الإسلامي، وذلك بعد التسليم بأن عادات الناس وأعرافهم تتغير وتتبدل بظروفهم، وهذه مقدمة أُولى لا تقبل الجدل ولا الخلاف، ثم يضيف إليها الشيخ مقدمة ثانية يُحدِّد فيها موقف الشارع من هذه العادات والأعراف: «فالشارع –كما قال الشيخ بحق- إنْ هو حَكَمَ فيها بحكم واحد تفصيلي، يصاب الناس بكثير من العَنَتِ والجَهْدِ، ويخرُج بهم عن مقصد الإسلام الذي بُني على مصالح العباد.. «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» {الأنبياء: 107}، وإنْ هو شرع لها أحكامًا كثيرةً، كثرةَ هذه المصالح المتبدلة والأحوال المتغيرة، كَثُرَت التكاليف على الناس، وضاقوا ذرعًا بضبطها وحَذقها، وكان ذلك انتقاضًا على الشريعة التي وضعت على أساس متين، هو: «قلة التكاليف»..
لهذا كله كان من حكمة الحكيم العليم أن يشرع للناس أحكامًا مطلقة عن البيان والتفصيل، مهما اختلفت الظروف وتبدلت الأحوال، ويكل إلى الراسخين في تنزيل الأحكام على الحوادث تفصيلَ هذه الأحكام (...) وهذا باب عظيم من أبواب العُرف يبتني عليه شطر كبير من الأحكام، ولا يكادُ ينكره فقيهٌ، وهو كذلك برهان ثابت وحجة دامغة على عظمة الشريعة وجلالتها، وأنها صالحة لكل زمان ومكان».
وأمر آخر يضيفهُ الشيخ الجليل في بيان حِكْمةِ احتفال الشرع بأصل «العُرف» وهو أن الشارع اهتم بمراعاة العُرف الصالح، فيما يَشرع للناس من الأحكام حتى يَسْهُل عليهم قَبُولَها وتطبيقها في حياتهم، ولا يضيقوا ذرعًا بها فيشق عليهم تطبيقها، ومن هنا كان للعُرف الصحيح أثر بالغ في شرع القانون الإسلامي.
بل هناك الكثير من القضايا التي تتفاوت أهميتها في حياة الناس، وبعضها أساسي وحيوي، وبعضها هامشي عرضي، ولكن أُريد له يَتضخَّم بفتاوى متشدِّدة شغلت المسلمين عن أن يأخذوا مكانهم اللائق بهم بين الأمم، فهل يعقل –مثلًا- أن يظل قضية تولي المرأة للقضاء – وقضايا أخرى - محل خلاف عميق، في وقت صارت المرأة فيه ضابطًا وقائدًا للطائرات وأُستاذًا في الجامعة ووزيرًا في الحكومات.. فهل لا تزال أحكام المرأة في ظل هذه الأعراف المتغيرة هي هي أحكام المرأة أيام كان العرف يقضي بأن الحصان الرزان من النساء هي ما كانت حبيسة القصور والدور والخيام؟!.
وشدد على أن المسؤولية جسيمة، وكثير من آلام الناس ومشكلات الأسر والبيوت التي تهدمت وتفكَّكت كان بسبب فتاوى مقولبة، وأحكام بنيت على أعراف ملائمة لبيئة وغير ملائمة لبيئة أخرى، أو على أعراف قديمة تبدلت وتغيرت عدة مرات، ولا زال ينقل ما بني عليها من فتاوى نقلًا حرفيًا مُسلّمًا، كأن التشريع توقف بحياة الناس عند تاريخ معين، وفي بيئة جغرافية معينة..
ثم أين هذه الفتاوى الغريبة على الزمان والمكان مما نحفظه عن ظهر قلب من قوله تعالى: «لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا» {البقرة: 286}، وقوله: « مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ » {المائدة/6}، وقوله: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » {الحج/78}، وحديث أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا»، بل أين هذه الفتاوى مما استقرأه عظماء الفقه والأصول من قواعد التيسير مثل: العادة محكمة. المَشقَّة تجلب التيسير. الأمر إذا ضاق اتَّسَع. المعروف عُرفًا كالمشروط شرطًا. تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.
ولفيلسوف الفقه المالكي الإمام شهاب الدين القرافي المصري كلمات ذهبية أبرأ بها ذمته من تبعة الإفتاء والمفتين وذلك في كتابه «الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام» يقول فيها: «ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مُستفتٍ لا يَعلمُ أنَّه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضعُ الفتيا، أن لا يُفتيَه بما عادتُه يُفتي به حتى يَسأله عن بلده، وهل حدَثَ لهم عُرْفٌ في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإِن كان اللفظُ عُرفيًّا فهل عُرْفُ ذلك البلد مُوافِقٌ لهذا البلد في عُرْفه أم لا؟ وهذا أمرٌ متعيِّنٌ واجبٌ لا يَختلف فيه العلماء، وأنَّ العادتينِ متى كانتا في بلدينِ ليستا سواءً أنَّ حُكمَهما ليس سواء».
كما يقول أيضًا في كتابه «الفروق»: «فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك: لا تُجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأَجْره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك. فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين».
ولفت إلى أنه آن الأوان لأن نبعث مثل هذه الكنوز من مراقدها في تراثنا العظيم، وننفض عنها غبار الإهمال الذي حرم الناس من يسر الشريعة ورحمتها، وأن نستلهم هذه الكنوز في كل شاردة وواردة في صناعة الفتوى، فهي وحدها الكفيلة بترغيب الناس في الالتزام بأحكام الشرع الشريف، وهي وحدها العاصمة للفقيه والمفتي من إرهاق الناس وحملهم على ما يشق عليهم، وهي العاصمة أيضًا من الترخص الذميم الذي يقترب من تحليل الحرام وتشجيع الناس على التحلل من ربقة الدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.