هل لاحظنا كم الغضب والرفض الذى أبداه قطاع كبير من أساتذة الجامعة ، اعتراضاً على ما اعتبروه إهانة من صناع مسلسل "أستاذ ورئيس قسم" لأستاذ الجامعة وتشويه صورته ؟ كان هذا فقط على خلفية مشهدين اثنين مدتهما معاً خمس دقائق ، الأول مشهد أستاذ الجامعة فى البار يتناول الخمر مع غانية ، والآخر ضرب أستاذ جامعة على قفاه فى المدرج من طالب ذى توجه سياسى مخالف له ! كانت الاجابات فى محاولة لتهدئتهم ، أنه ليس معنى أن المسلسل عالج بعض القصور والسلبيات فى شخصية أستاذ الجامعة أن أساتذة الجامعة جميعهم سيئون ، فهناك نماذج جيدة وايجابية . يحدث هذا وهناك أعمال فنية أخرى تتناول الجانب الايجابى من هذه الشخصية وتعرضها بشكل جيد ، بل هذا المسلسل نفسه اذا نظرنا الى مجمله انتصار لشخصية أستاذ الجامعة الذى يفضل غيره على نفسه ويزهد فى الحياة ولا يهتم بالمادة ويقدم مصالح الآخرين على مصالحه الشخصية ، بل يختاره المؤلف ليكون طليعة الثورة على الظلم والفساد ، بغض النظر هنا عن الانتصار للخلفية الفكرية لهذا النموذج باعتباره يسارى التوجه. السؤال هنا لماذا كان غضب أساتذة الجامعة على المسلسل ، ولماذا تصرفوا بهذا الشكل ؟ أعتقد أنهم يضغطون بشكل ايجابى وجيد للحصول على مكتسبات فنية أوسع ، وأن يتعامل المؤلفون والفنانون مع هذا النموذج مستقبلاً بشكل ليس أكثر انصافاً فقط ، بل أكثر تدليلاً وتدليعاً أيضاً. وهذا دال على مدى ادراك أساتذة الجامعة لخطورة الفن والدراما الرمضانية على وجه الخصوص. على الجانب الآخر ، أين ادراك ووعى باقى النماذج فى المجتمع بخطورة الفن وأهمية توظيفه والتفاعل معه بايجابية والتأثير فيه قبل التأثر به ؟ يبدو هنا " التيار الاسلامى " على مدار عقود منذ ما قبل الخمسينات الى اليوم هو الخاسر الأكبر فى هذا السياق. لماذا ؟ لأنه الغائب الأكبر عن الساحة الفنية والابداعية عموماً ، وهى الساحة الأكثر تأثيراً فى القاعدة العريضة من الجمهور الذى يعتمد على التلقى الفنى والقصصى المرئى ، بخلاف النخب وبضعة الآلاف الذين يمكن ابقاؤهم فى حلقة الارتباط بهذا التيار أو ذاك من خلال محاضرة أو كتاب. التيار الاسلامى " أستاذ ورئيس قسم " فى حرمان نفسه من هذه الساحة والتعامل معها من منطلق العداء والخصومة ابتداء ، لا من منطلق محاولة كسبها وتوظيفها لاحقاً لصالحه . وهو " أستاذ ورئيس قسم " فى تلقى الضربات والهزائم الفنية ، بسبب دخول الملعب بالأدوات الخطأ والأشخاص الخطأ والأسلوب الخطأ. فملعب الابداع والدراما والسينما لا يدخله شيخ واعظ بلحية وجلباب أبيض يظل يشجب ويشتم ويتوعد الممثلين والمطربين بالنار والحريق وجهنم . انما الساحة الابداعية والفنية وصراعاتها لا يصلح ولا ينجح فيها الا المبدعون ، بطرح فنى مواز مختلف وبأداء ابداعى راق وتجربة نقدية متطورة. مبدعون يدافعون عن وجهات النظر الأخرى ويطرحون قضاياهم فنياً ويخاطبون بها الجمهور والنقاد ، لا مجرد شيخ أو داعية – مع احترامنا للمقامات – يظل يعترض بكلام انشائى خطابى مكرر منذ أيام الشيخ كشك رحمه الله ، دون نتيجة تذكر ، فالأعمال الفنية تعرض ويتأثر بها جمهور عريض وتؤدى الهدف من ورائها ، ويظل تأثير الرفض السلبى الخطابى فى أضيق الحدود . لذلك قال سقراط " رواة القصص هم من يحكمون الشعوب " ، فالفنون تأثيرها سياسى اجتماعى جذرى ، وليست كما يتوهم الواهمون بعض الحكايات والمسلسلات للتسلية العابرة. ماذا اذاً ؟ هنا عمل فنى واحد يستطيع صناعه تغيير قناعات ومحو وتبديل حقائق وخلق تصورات جديدة وطرح رؤى مختلفة تماماً وقد تكون مناهضة ومتناقضة مع ما حدث ويحدث بالفعل على أرض الواقع . وبسبب طبيعة العمل الفنى وارتباط الجمهور بالفنان – اختلفنا معه أو اتفقنا - فهو يتأثر ويصدق ما جاء بالمسلسل والفيلم ، بالرغم من أن ما جاء به مختلف عما شاهده هو بأم عينه على أرض الواقع. هناك أسئلة مهمة يجب الاجابة عنها بعد رؤية المسلسل وجهد الفنان عادل امام فيه : هل الشخص المتدين هو فقط المنتمى لجماعات وتنظيمات كالاخوان وغيرها فقط ؟ ألا يوجد متدينون غير منتمين سياسياً وغير منضمين لجماعات وتنظيمات ؟ ألا يوجد نموذج لشخصية متدينة مصرية غير متزمت وغير متعصب متجهم معقد نفسياً ؟ ألا يوجد فى مجتمعنا المصرى والعربى نموذجاً للانسان المتدين يجسد الجانب الانسانى الايجابى ، فهو ليس أنانياً ولا شهوانياً ولا مادياً ولا زير نساء فى الخفاء ولا وصولياً متسلقاً ولا منافقاً ولا نصاباً .. الخ ، إنما مناضلاً فى سبيل الخير وساعياً بالمعروف وخلوقاً مع جيرانه وأهل بيته ومعارفه وصادقاً ونبيلاً فى خصوماته ومعاركه وشهماً فى علاقاته الإنسانية .. الخ ؟ ألا يوجد نموذج للمتدين الذى يحب الفرح والمرح والسعادة وينشر البهجة فى محيطه وفيمن حوله ، المتصالح مع نفسه المثقف المطلع المدرك جيداً لحقائق دينه ثقافياً وحضارياً وفكريا .. وليس فقط النموذج المطروح دائماً فنياً ، المتجهم المعادى للبهجة والموسيقى والفنون والابداع ، كاره نفسه والناس حوله ؟ الاجابة يوجد الكثير ، لكن الفن المصرى – وفى القلب منه أعمال الفنان عادل امام - يقول غير ذلك ، فنموذج المتدين فيه اما ارهابى متطرف تفجيرى مفخخ ، أو منتمى سياسياً يستغل الدين لأغراض سياسية ، أو معقد اجتماعياً ملوث انسانياً وأخلاقياً منحرف فكرياً. ليس فقط خلال مسلسل " أستاذ ورئيس قسم " ، انما على مدار ساعات طويلة من أفلام ومسرحيات ومسلسلات ، بالمقارنة بخمس دقائق فقط سلبية فى هذا المسلسل انتفض لأجلها أساتذة الجامعة وثاروا لانتقاص نموذجهم فى مشهد أو مشهدين ! القضية هنا أضخم من كونها مجرد حضور على الساحة الفنية وتأثير جماهيرى من خلالها وتعامل بحرفية مع هذا الواقع وتلك المدارس الفنية المتمرسة .. لأن لهذا الملف الحيوى والحساس أبعاداً أخرى تؤثر فى الواقع السياسى وفى اعادة تشكيل الخريطة السياسية وموازين القوى بالنظر الى حجم تأثير الكيانات الثقافية والفنية الراسخة سياسياً وجماهيرياً خاصة فى مصر وعلى امتداد الوطن العربى كله بايجاد ثقل اعلامى وجماهيرى للتيارات والفئات ذات الأغلبية والفاعلة على الأرض ، لتأتى " الحركة الاسلامية " – التى كان من المفترض أنها المعبر النخبوى عن نموذج الشخصية المتدينة - بمجرد صعودها الى الحكم لتعلن عداءها ورغبتها فى الثأر من رموز – بغض النظر عن اختلافنا مع طرحهم الفنى – ذات ثقل جماهيرى واسع ، وبالدراسة والتأمل أنها نجد أنها تمتلك بالفعل جماهيرية واسعة وراسخة لا يستهان بها ، وكانت تستدعى من اللاعبين الجدد فى الساحة وقفات طويلة قبل أى خطوة على طريق التعامل مع هذا الواقع وهؤلاء الرموز . تخسر " الحركة الاسلامية " معاركها السياسية لعدائها وصدامها مع شخصيات سياسية وزعامات صاحبة رسوخ فى الوجدان المصرى والعربى بالرغم من أن طريق التحالف والتعاون والتكامل معها كان هو الأجدى لصالح الدعوة ولصالح الحركة ولصالح المنهج ولصالح الأمة والأوطان ، وعلى رأس تلك الشخصيات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الراحل أنور السادات رحمهما الله ، فضلاً عما تتمتع به تلك الشخصيات السياسية من جماهيرية واسعة ومن حضور فى الوجدان الشعبى العربى والمصرى ، وكذلك تخسر معاركها الثقافية لعدائها وصدامها المباشر مع الكيانات والرموز الثقافية والفكرية والابداعية القائمة ذات الرسوخ والقوة والشهرة والجماهيرية العريضة. الأجدى لصالح الدعوة والحركة كان هو طريق الانفتاح على هذا الواقع وعدم التعامل مع سلبياته فقط بشكل مباشر والتركيز فقط فى المراحل الأولى من الحضور على الانتاج وصولاً لاثبات الذات ، وعند ترسيخ الأقدام والوصول الى مستوى الجماهيرية والشهرة المطلوب لا مانع من حديث على الهامش بأسلوب نقدى راق عن هذا العمل أو ذلك المشهد لهذا الفنان أو تلك الفنانة فى اطار ما هو طبيعى ومتعارف عليه من نقاشات وحوارات فنية نقدية ، أما الصدام والثأر وتصفية الحسابات فى أروقة المحاكم ، فهذا فى واقع الأمر ليس استهدافاً لهذا الفنان بقدر ما هو استهداف واستفزاز لجماهيره العريضة وشهرته الضاربة ، فى حين لايزال رصيد الحركة الجماهيرى على الصعيد الفنى والثقافى من خلال أدوات الفن والثقافة المؤثرة يساوى صفراً تقريباً. مسكينة ومكسورة الجناح شخصية المتدين المصرى والعربى ؛ فرغم أنه النموذج الغالب فى الواقع الا أنه هو المضطهد فنياً والمشوه ابداعياً ، وشخصية المتدين المصرى والعربى لم تجد كياناً منظماً ينهض بالتعبير عنها وانصافها وطرح رؤاها ومعالجة قضاياها بشكل شفاف متجرد ، وحمايتها والدفاع عنها كما يجب . ربما نعود لاحقاً لمواصلة الحديث فى هذا الملف الحيوى والشائك لاحقاً ان شاء الله.