من أجل الأغنياء وخدمة الأغنياء فقط، بدأت فكرة البنوك فى العالم، فقد كان الأغنياء يضعون نقودهم كودائع عند الصاغة والصيارفة لحفظها من السرقة فى مقابل إيصالات أداء بها. ثم بدأ تدوال هذه الودائع بين الناس فى المعاملات التجارية عن طريق هؤلاء الصيارفة، أعقبها سحب بعض الأغنياء من ودائع غيرهم على المكشوف، ومع الوقت تطورت وتلاحقت الأمور حتى تشكلت البنوك الأولى من هؤلاء المؤتمنين على الودائع فشلت التجربة فى البداية ثم نجحت وتطورت مع مرور الزمن وصارت لها قوانينها ونظمها حتى وصلت إلى الصورة التى نراها عليها اليوم. ويبدو أن الحنين إلى البداية عاد يراود البنوك فى مصر، ففى الآونة الأخيرة تحولت البنوك نحو خدمة الأغنياء فقط على حساب الفقراء، وصارت الحكومة هى العميل الماسى لأى بنك فى مصر سواء عن طريق إقراضها بصورة مباشرة لسد عجز الموازنة أو شراء سندات وأذون الخزانة لسد العجز أيضاً بصورة غير مباشرة، ففى النهاية كلها ديون بصورة أو بأخرى، ولكنها ديون من وجهة نظر البنوك ديون ممتازة فهى من الناحية النظرية مضمون تحصيلها، وبالتالى أرباح ومكافآت لمجالس الإدارات والعاملين وإنجازات وتقارير نمو للنشاط البنكى وأحاديث صحفية عن القروض إلى آخر ما نراه ونسمع عنه كل يوم من أحلام وردية وأوهام رمادية. والنتيجة أنه لم يعد هناك حاجة لدى البنوك للدخول فى مخاطرة تمويل الأنشطة الاقتصادية الحقيقية التى يقوم عليها المجتمع الذى تمثله الحكومة المدينة لهذه البنوك، فبدلاً من إقراض تريليون جنيه لعدة ملايين من أصحاب المشروعات الصغيرة ومتابعة تحصيل القروض وإمكانية أن يتعثر عدد منهم فيتم إلقاء اللوم على كل من شارك ولو بكلمة فى إقراضهم، يتم إقراض الحكومة المتحدثة عنهم هذا المبلغ ليدخل بلاعة العجز السنوى للميزانية ويذهب ربعه على الأقل لخدمة الدين الأصلى لنفس البنوك، ولو تعثرت الحكومة عن السداد فلن يحاسبهم أحد، فالحكومة لن تحاسب من أقرضها على إقراضه لها. لذا ينكمش الاقتصاد عاماً بعد عام، وتقل مع هذا الانكماش الإيرادات وتتضاءل فرص العمل ويزداد الفقر يوماً بعد يوم، وتضطر نفس الحكومة إلى اللجوء لمزيد من الديون من نفس البنوك لسد العجز فى الموازنة والتخفيف من حدة الفقر، فللهروب من دائرة العجز يدخلون دائرة زيادة العجز بمزيد من القروض، ولتخفيف حدة الفقر يزداد عدد الفقراء، فالحكومة عند تعاملها مع عجز الموازنة تعمل كالطبيب العاجز عن العمل أمام مريضه فيعطيه مسكنات قوية للألم فيعتقد المريض أنه قد شُفى فيهتف ويهلل للطبيب وتتفاقم المشكلة بداخله دون أن يدرى حتى يسقط فجأة، وإن حالفه الحظ يتحول المرض الحاد بداخله إلى مرض مزمن يظل سنوات وسنوات يحاول الشفاء منه وعلاج كوارثه الجانبية. فقد قدمت الحكومة للبنوك طوق نجاة أراه سيئ الصناعة وسينقطع مع أول ضغط حقيقى عليه عندما جعلت نفسها العميل الأكبر والأضمن والأوفر حظاً للاقتراض منها؛ مما أدى إلى عزوف البنوك عن التمويل الصغير والمتناهى الصغر وفشلت البنوك فى لعب دور حقيقى فى تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة فى مصر، واستبدلتها بالقروض الشخصة للموظفين لقضاء بعض حوائجهم الأساسية وشراء السلع المعمرة فى نشاط استهلاكى من الدرجة الأولى وبضمان مرتباتهم الحكومية، أى أن الحكومة هى أيضاً ضامن لهؤلاء المدينين صغار، ولا يقل لى أحد أن هذا الإقراض يساهم فى تنشيط السوق لأن ذلك مرتبط بكون هذه السلع منتجة محلياً أم مستوردة من الخارج. ومن هنا وجب البحث عن حل حقيقى كتخصيص بنك للمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، ولا يسمح لهذا البنك بإقراض الحكومات أو شراء سندات وأذون الخزانة أو إقراض الشركات الكبرى أو تأسيس شركات تمويل تجارى مخصصة لهذه النوعية من المشروعات هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى على الحكومة البحث عن بدائل لزيادة مواردها بدلاً من زيادة ديونها يوماً بعد يوم، فالدين الداخلى وصل إلى معدل كارثى والاقتراض من البنوك لسداده كمن يستجير بالرمضاء من النار؛ وللحديث بقية.