دراما حزينة تشاهدها عن قرب إذا ساقك قدرك إلى مقابر الغفير والمجاورين زائرا، هناك ستجد عشرات الأسر الفقيرة التي تسكن المكان الموحش، ترقد إلى جوار الموتى، أحياءً، تتنفس هواء حزينا خال من الأكسجين النقي، دموعهم دائما متساقطة على خدودهم الصغيرة الشاحبة من ظلم البني آدمين والحكومة والرئيس، وجوع البطون المستمر، دون أن يحرك صراخ بطونهم ساكنًا. من جانبها، زارت "البديل" سكان المقابر وعاشت بينهم يوما كاملا، وسط أجواء من اليأس والبؤس والقهر والاستسلام للأمر الواقع؛ فلم يعد هناك حلم بحياة كريمة أو حتى "أوضه بأربع حيطان" تأويهم وذويهم من برد الشتاء القارص أو حر الشمس الحارقة وكلاب الشوارع وبلطجية الأحواش ومدمني المخدرات، وسط صرخات التربية وضيق الجميع بهم باستثناء الموتي الذين استضافوهم دون شكوي أو تذمر من وجودهم. تعدادهم 2 مليون مواطن، بحسب آخر تقرير إحصائي رسمي صادر عن "الإسكان" لا يخشون الموتي، لكنهم يخافون الأحياء الذين يزاحمونهم المقابر، يقولون إن الثورة خدعتهم مرتين.. صحيح أسقطت الفرعون مبارك وعزلت الإخوانجي مرسي وأتت بالسيسي رئيسا، لكنها، بحسب سكان المقابر، لم تفعل شيئا للبسطاء والفقراء الراقدون فى تُرب الغفير المجاورين، بلا حيلة سوى التسول والشحاذة والعيش على صدقات أهل المتوفين في الأعياد والمناسبات السنوية. البراءة تسكن المقابر من يصدق أن القمر يسكن في ضيافة الموتى، والبراءة تنام بجوار جثث وبقايا عظام من تنتهي أعمارهم فيرحلون ليجاوروا الأحياء من جديد.. هذه الطفلة الصغيرة التي تسكن الابتسامة وجهها وتعيش ربيعها الثاني عشر بين المقابر مع أسرتها وتقضي طفولتها تلهو مع قريناتها وسط الأموات وكل أحلامها تبخرت في "عشة" أو"خيمة" أو "أربع حيطان" تستذكر فيها دروسها وتحتمي بين جدرانها من برد الشتاء وحرارة الشمس الحارقة ومسجلين المقابر الذين يهربون من الشرطة فيسكنون هنا بجوار الموتي. أسوأ ما في الحياة، طفل محروم من حق السكن والتعليم وارتداء الملابس النظيفة واللعب، الطفولة محرومة من الحياة الطبيعية لسنه، وهناك داخل القبور أحياء يعيشون فيها دون عدالة اجتماعية تؤمن لهم سبل المعيشة والحياة الكريمة.. هناك تقضي "شروق" يومها وليلها بين الأموات، الأمر الذي لم يبدد حلمها بأن تصبح وزيرة في يوم من الأيام. تتكئ بيديها علي إحدي مقابر الغفير التي تسكن علي بابها، قائلة: "أنا اتولدت هنا في الترب وعايشة ويا الميتين من زمان ومش خايفة منهم بس خوفي كله من البلطجية والمسجلين اللي بيفرضوا علينا إتاوات من يوم والتاني.. يعني مش كفاية علينا الحكومة رمتنا في الشارع كمان بندفع للبلطجية عشان نعرف نعيش". وعلى باب أحد أحواش مقابرالغفير، تلعب هدير خالد، 11 عاما غير خائفة من الأموات، قابلتنا مثل جارتها شروق بالضحك والهزار، نجحت فى الشهادة الابتدائية وهي الآن في المرحلة الإعدادية، وتتمنى أن تصبح طبيبة في المستقبل، تلعب أمام والدتها "ميرفت محمد" التي تجلس على كرسي خشبي قديم أمام كشك صغير تبيع فيه الحلوى والبسكويت والشاي للمارة هي وابنتها ذات الإحدى عشر ربيعا. أم هدير مثال للست المصرية المكافحة "الجدعة"، تقول إن كشك الحلوى مصدر رزقها الوحيد الذي تنفق منه على أسرتها المكونة من أب وأم وفتاتين صغيرتين، زوجها يعاني من مرض مزمن، أقعده عن الحركة راقدا دائما على الفراش، ولا يوجد له دخل ولا معاش، تعمل معظم الأيام كخادمة فى البيوت نهارا وبعد الظهر تجلس أمام الكشك للبيع، تتمنى أن يكون لها وظيفة ثابتة حتى تحصل على دخل يمكنها من الإنفاق على بيتها، لا تهاب المقابر، فأصبحت مثلهم كالميتة وأولادها تأقلموا على المكان، بحسب تعبيرها. الحارة 6 مقابر الغفير.. فاتن وابنتيها بين وحشة القبور داخل كشك صغير من الخشب بالحارة 6 بمقابر الغفير، يضم سريرا صغيرا وبوتاجازا بعين واحدة تعمل لطهي الأطعمة ودولابا متهالكا وبقايا ملابس مهلهلة متناثرة في الداخل وحصير يغطي تراب الأرضية، تسكن فاتن عبدالله، 48 عاما مع ابنتيها سحر، 15 عاما وهند، 17 عاما، بمفردهن دون رجل يحميهمن من وحشة المقابر، تنام فاتن على الأرض وابنتيها على السرير بعد أن تركها زوجها وتزوج من امرأه غيرها، دون نفقة أو مال. فاتن تحصل على المال والنفقات التي تعينها على إعاشة ابنتيها من خلال صدقات أقارب المتوفين في المقابر ومساعدات أهل الخير، ست بألف راجل كما يقولون، تحرص على سمعتها وسمعة سحر وهند، تغلق بابها عليها من المغرب مع ابنتيها ولا تخرج إلا مع شمس يوم جديد، وتخشى من لصوص الليل ومدمني المخدرات ومتعاطي البرشام الذين يتوافدون ليلاً إلى المقابر هربا من الأمن. "من خاف سلم".. بهذا المنطق تلتزم الحاجة فاتن كشكها الصغير ليلا دون أن تغادره، وتؤكد أنها تعيش في هذا المكان المرعب تحت العناية الربانية وبركة دعا "الوالدين"، البلطجية ليسوا فقط مصدر الخوف فى المقابر، بل الأشباح التي يتخيلونها ليلا، بحسب تعبيرها، لكنها تضطر للعيش فيها لضيق ذات اليد. غاضبة جدا من غياب الأمن فى المقابر، وتتمنى أن يعود كسابق عهده قبل الثورة، خاصة في عهد عبد الفتاح السيسي، الرئيس الذي انتخبته وابنتيها سحر وهند، نكاية في الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعته التي خربت مصر، علي حد قولها. الحاجة فاتن كل أملها فى الحياة أن تحصل على مكان أكبر من الكشك داخل أو خارج المقابر لتستطيع أن تعيش حياة كريمة هي وبناتها، وأن يساعدها أحد المسؤولين فى الحصول على وظيفة أو أي عمل تحصل منه على ما يساعدها فى تدبير حياتها اليومية. سحر، ابنتها عندما علمت أننا صحفيون تنفست الصعداء، وطلبت منا أن توصل رسالة للمسؤولين، تضمنت "أنا ولدت فى هذا المكان بعد أن تركنا والدي منذ 5 سنوات ولم يسأل فينا، وكنت أتمنى أن أدخل المدرسة وأتعلم، لكن الظروف لم تسمح، فوالدي كان دائما يتعامل مع أمي بقسوة، ولم يعاملنا جيدا، وتركنا وتزوج على أمي.. وأتمنى من الرئيس السيسي أن يهتم بتعليم الأطفال". الصيفي.. شيخ التُربية فى مقابر المجاورين أحمد حسن الصيفي، من أشهر "التربية" فى منطقة مدافن المجاورين، يلقب بحامى حمى سكان المنطقة، ومؤرخها، يحفظ بين صفحات ذاكرته الكثير عن تاريخ المجاورين، يحكي أن المنطقة كانت قديما مقابر للمماليك، وكان أشهرهم السلطان قايتباي، ومقبرته توجد فى أول المدافن، وأثار الخيول والمقامات والساقية التى كانت تنبع منها المياه الجوفية والمكتبة الكبيرة و"الكتاب" الذى أنشأه السلطان للتعليم، ويأتى بعدها جامع السلطان الأشرف بن قلاوون والسلطان برقوق، الذين يعتبروا أيضا من أشهر السلاطين في العصر المملوكي، وهناك أضرحة للأمراء. وأطلق عليها "المجاورين"، نسبة لمجاورة الأزهر الشريف، وكان يطلق أيضا على طلاب الأزهر "المجاورين" الذين كانوا يجاورون المعلم أو الشيخ وعندما يتوفى أحدهم كانوا يدفنوه في هذه المنطقة، بحسب رواية الصيفي، الذي أوضح أن المقابر كانت تضم أيضا مساحة من "حديقة الأزهر"، كما كانت هذه المقابر قديما مزينة بقطع الرخام الفاخر "المرمر" والسيراميك، وذات قيمة عالية جدا ولا يدفن فيها سوى السلاطين والأمراء. اليوم، تتراوح أسعار المقابر بين 50 إلي 100 ألف جينه، وتعتبر مقابر نجمة واحدة أو نجمتين، أما هناك "مقابر الأتراك" أو المقابر التي على طريق الفيوم أو أكتوبر، تتراوح أسعارها بين النصف مليون ومليون جنيه، فهى مقابر 5 نجوم بالمقارنة بالمجاورين. نبوية.. أرملة تعيش بجوار مقبرة زوجها منذ 20 عامًا حياة من التفاني والوفاء والإخلاص تعيشها نبوية السيد أحمد، وشهرتها "أم وليد" 62 عاما، بعد وفاة زوجها، تسكن المقابر منذ عشرين عاما بجوار قبر زوجها الذي ترك لها 5 أطفال في عمر الزهور لتعولهم، جاءت إلى المقابر مضطرة بعد أن طردت من شقتها لعدم تمكنها من دفع الإيجار، كما أكدت لنا. نبوية مثل كثيرات من السيدات لاتقرأ ولاتكتب، ولا تعرف في الحياة سوى الحصول على"لقمة العيش"، لا تفقه شيئا عن السياسة، وكل ما تريده الستر والحياة الكريمة، تصف "الغفير" بأنها مقابر 3 نجوم بها صرف صحي جيد ويدخلها الكهرباء والمياه ومعظم المقابر متشطبة حديثا، بحسب كلامها، الأمر الذي استفاد منه سكان القبور نسبيا، لكن المعاملة المتعالية من قبل أصحاب المدافن ما تقلقهم، خاصة أنهم مهددون بالطرد في أي وقت. معاش نبوية من زوجها المتوفي 250 جنيها شهريا، وتعيش على مساعدات أهل الخير، لا تريد شقة لأنها: "مش هاقدر أدفع إيجارها، وإن دفعته مش هلاقي أكل أنا وولادي.. أنا عاوزة ستر ربنا"، تزوجت فى العقد الثاني من عمرها من "عبد المنعم"، حب حياتها وأنجبت أكبر أولادها "وليد" 36عاما، وشاءت الأقدار أن يولد معاقا ذهنيا ويعيش معاناة الفقر والإعاقة معا. تعرض أيضا وليد لحادث الشهر الماضي، نتج عنه جلطة بالمخ مع فقدان إحدي عينيه، ولم تتمكن من الذهاب به لإحدى المستشفيات الحكومية لعدم امتلاكها 2200 جنيه ثمن شريحة ومسامير لقدمه التي كسرت، نتيجة الحادث، واضطرت أن تلجأ للشحاذة والتسول و"مد الإيدين"، حتى تستطيع علاجه، ابنتها الثانية "رانيا" تبلغ من العمر 32 عاما، غير متعلمة أيضا، متزوجة ولديها طفلان "آية وأدهم"، على عكس أمها تعشق السياسة وتتمنى أن تصبح نائبة في البرلمان، تعمل أحيانا خادمة باليوم لتساعد والدتها على المعيشة. أما البنت الثالثة، تدعي "سمر"، 28 عاما متزوجة وغير متعلمة، حامل في طفلها الأول و"على وش طلاق"، بحسب تعبيرها؛ فتعانى وزوجها من الفقر الشديد ولا يستطيعان تحمل نفقات البيت، ودائما في خلافات ومشاكل، أما الرابعة فتُدعى "آية"، 24 عاما، وتعمل بالسوق المجاور للمقبرة، وتساهم أيضا في المعيشة مع إخوتها. كبيرة سكان المقابر.. «نونو» تدير 10 أحواش ناريمان علي، 62 عاما أو "نونو" بحسب ما تشتهر بين صديقاتها "الانتيمات"، في مقابر الغفير يطلقون عليها كبيرة المقابر لسنها ولأنها مسؤولة عن رعاية 10 أحواش وحدها، ولدت في المقابر، ولم تنل حظها من التعليم، وشبت على تحصيل دخلها من العمل و"الخدمة" في البيوت. تزوجت في عقدها الثانى من رجل يعمل فى ورشة لتصنيع الرخام داخل المقابر في حوش واسع مكون من غرفتين وحوش يرقد به المتوفي صاحب الحوش، أنجبت من زوجها ثلاثة أولاد، الابن الأكبر تزوج وسكن فى حوش بجوارها ويعمل سائقا، ويصرف ما يحصل عليه على أهل بيته، والثانى "ناصر"، 29 عاما، متزوج أيضا ويجلس بنفس الحوش الذي تسكن فيه "ناريمان"، ويعمل على كشك شاي، والبنت الثالثة متزوجة ولديها ثلاث أبناء. "نونو" تصف نفسها ب"مشهورة"؛ نتيجة ظهورها أكثر من 30 مرة فى وسائل الإعلام، ورغم شهرتها ومعرفة الجميع مأساتها، لم تحل مشاكلها أو يتغير واقعها إلي الأفضل كما تتمنى، تعرضت لحادثتي سرقة، أولها حينما ذهب إليها مجموعة من النساء وأخبروها أنهم من بحوث الإسكان، وأخذوا منها مبلغ من المال وبطاقتها الشخصية، مقابل إعطائها شقة، والحادث الثاني، عندما خرجت للتسوق، دخل إلى الحوش الذى تسكنه لصوص من السور الخلفي وسرقوا التليفزيون وبعض الأشياء الأخري من الأثاث القديم. تعانى ناريمان من مرض خشونة المفاصل، ما جعلها تستعمل عكازا خشبيا للحركة، فهي جالسة معظم الوقت ومحدودة الأنشطة، ومعظم ما تحصل عليه من مال تنفقه فى الحصول على دواء، كل أمنياتها كغيرها أن تحصل على شقة لها ولأولادها لتنقذهم من مشاكل المقابر وصعابها، وأن يصل صوتها هذه المرة للمسؤولين. صبي تربي: أنا زي السمك لو سيبت المقابر أموت رغم كبر سنه، لكنه مازال يعمل "صبي تربي"، يجلس متكئا على باب إحدى المقابر يتحدث مع صديقه، تحت ظل شجرة أمام مقبرة مرصعة بالرخام، هربا من حرارة الجو، إنه حامد على الجيار، 65 عاما، لديه 6 أولاد كبيرهم يعمل في ورشة فنية للميكانيكا بمنطقة بين السورين والابن الذى يليه يعمل معه في المقابر، له أربع بناته، ثلاث منهن متزوجات. عمل في مصنع 360 الحربي، ويحصل على معاش 800 جنيه، يساعد به أبناءه في تدبير احتياجاتهم، يسكن في حوش برفقة ابنه الأصغر، الذي يعمل معه وزوجته وابنته الصغيرة، يرضى بعيشته، قنوع، لكنه يتمنى أن تتحسن الأمور لأسرته، وأن يخرجوا من المقابر إلي شقق تحفظ كرامتهم بعد أن أهدرت طيلة السنين الماضية. الحاج حامد ولد في المقابر، ولم يخرج منه حتى الآن، راض بحياته، وأصبح كالسمك في المياه، ولا يستطيع أن يخرج من المقابر، بحسب وصفه، ويتمنى عودة الأمن مرة ثانية إلى المقابر، كما كان قبل الثورة، بعدما أصبحت المقابر ملاذا للبلطجية ومتعاطي المخدرات.