العلاقات المصرية مع قطاع غزة وثيقة منذ عدة عقود، ومرتبطة جغرافيا وتاريخيا، لكنها خلال السنوات القليلة الماضية أخذت منحنى آخر بدأ بالتنازل عن القطاع والتفريط فيه خلال الفترة الساداتية، وتزايد العداء والقطيعة فيما بعد ذلك، ورغم التحسن في العلاقات خلال حكم مرسي، إلا أنها عادت لتتوتر مجددا مع تولي السيسي الحكم، فعلى مدار سنوات عدة في فترة ما قبل السادات أخذت مصر على عاتقها تحمل عبء القطاع الفلسطيني واستخدامه لحماية الأمن القومي للبلاد، لكن الأمر تغير حاليًا بشكل كلى، ويرى المراقبين أن هذا التغيير لم يكن وليد النظام الحالي وحده بل هو نتيجة توجه سياسي مستمر منذ توقيع مصر معاهدة السلام مع الاحتلال. تقسيم فلسطين.. الأممالمتحدة تمهد لمشروع التفكيك في 29 نوفمبر عام 1947، أصدرت الجمعية العامة التابعة لهيئة الأممالمتحدة القرار رقم 181، القاضي بتقسيم فلسطين إلى ثلاث مناطق بعد تصويت 33 دولة مع القرار، و13 ضد، وامتناع 10 دول عن التصويت، وتبنت خطة التقسيم إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة، دولة عربية: تبلغ مساحتها حوالي 4.300 ميل مربع أي 11 ألف كم2، ودولة يهودية تبلغ مساحتها حوالي 5.700 ميل مربع أي 15 ألف كم2، والقدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، تحت وصاية دولية، ورفضت حينها مصر القرار الأممي ودخلت فلسطين في مايو عام 1948، حيث شنت هجومًا عسكريًا بجانب العديد من الدول العربية الرافضة لقرار التقسيم أيضًا لطرد المليشيات اليهودية من فلسطين، لكن كانت مصر الرائدة في هذه الحرب حيث شكلت أكثرية القوات العربية عددًا حيث أرسلت 10 آلاف جندي تحت قيادة اللواء أحمد على المواوي، واستمرت الحرب حتى مارس عام 1949، حيث وقعت كل من مصر وإسرائيل هدنة تقضي باحتفاظ مصر بالمدينة ولذلك كانت مأوى لكثير من اللاجئين الفلسطينيين عند خروجهم من ديارهم. عبد الناصر.. وشوكة القطاع التي أرهقت العدو كان للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فكر ومشروع عربي وقومي يقوم على ثوابت الوحدة العربية والإسلامية، فكان لا يترك مناسبة إلا ويجاهر فيها بمعاداته للمشروع الصهيوني في المنطقة والاستعمار، ويؤكد على دعمه للمقاومة الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في وطنه ومعاناة أهالي قطاع غزة المحاصرين وتحرير القدس، ووفقًا لأراء العديد من المراقبين والخبراء فإن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو أبرز من التزم بالوقوف إلى جوار الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة، على مر العصور والحقب التاريخية المصرية. منذ بداية عهد عبد الناصر، سعى إلى محو الصفحة السوداء التي نسجتها حملات الإعلام فيما يخص هزيمة الفلسطينيين في حرب 48، حيث تصدي ناصر لحرب التخوين التي اتهمت الفلسطينيين بالتخاذل وبيع أراضيهم، شارحًا الظروف كما عاشها وأنصف الفلسطينيون، كما كانت غزة حاضرة وبقوة في أجندة ناصر العسكرية والسياسية، فالقطاع شهد خلال تلك الفترة تنفيذ عدة عمليات مصرية ضد القوات الإسرائيلية، كما أنه كان ركيزة أساسية في معادلة الصراع المصري الإسرائيلي في عدوان 1956، وكذلك في عام 1967، لكن رغم هذا تشبثت الإدارة المصرية بالقطاع وبقائه تحت سيادتها. على الرغم من تبني "عبد الناصر" شعار القومية العربية وسعيه إلى توحيد الدول العربية تحت راية واحدة، إلا أن بعض الظروف لم تسر وفق أهوائه وأحلامه القومية، حيث فقدت مصر في عهده قطاع غزة عقب نكسة 1967، بعد احتلال إسرائيل لمناطق من سيناء، لكن أثناء النكسة حاربت غزة إلى جانب الجيش المصري ببطولة شهد بها الأعداء ولم تسقط إلا بعد أن سقطت سيناء والجولان والضفة. السادات.. بداية التنازل عن غزة عقب نصر أكتوبر عام 1973، عرض الرئيس محمد أنور السادات، أن يذهب إلى الكنيست الصهيوني، وهو ما تم بالفعل وخلال اللقاء تم الإعلان عن خطة تسوية النزاع في المنطقة، وعلى الرغم من حرص السادات حينها على التأكيد على مشروعية حقوق الشعب الفلسطيني، مطالبًا بالعودة إلى حدود ما قبل عام 1967، إلا أنه لم يسع أو حتى يتفاوض خلال توقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل، على استعادة قطاع غزة من السلطات الإسرائيلية بعد أن سقطت في قبضتهم عقب النكسة، بعد أن كانت مصر مسؤولة قانونيًا عنها منذ العام 1948 وحتى 1967. وأدى تغيير استراتيجية مصر وتعاطيها مع قطاع غزة خلال فترة حكم السادات إلى بدء مرحلة جديدة تؤكد انسلاخ القطاع الفلسطيني من القبضة المصرية، والإعلان عن البداية الحقيقية لمشروع تفكيك الدولة الفلسطينية، بعدما أصبحت غزة جزءا منفصلا. مبارك.. على خطى السادات يمضي اعتمد الرئيس الأسبق، محمد حسني مبارك، في بداية عهده سياسة الابتعاد عن معاداة الكيان الصهيوني نظرًا لتقربه من الاستراتيجية الأمريكية التي تعتبر الحليف الأول والأوثق لكيان الاحتلال، حيث كان مبارك يتعمد مناقشة أوضاع الفلسطينين في غزة خلال المحافل الدولية بشكل هزيل، واختلف الأمر في السنوات اللاحقة للانتفاضة الثانية، حيث لعب نظام مبارك دورًا متواطئًا مع الإسرائيليين للضغط على أهالي غزة. مع سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في يونيو عام 2007، قررت القيادة المصرية معاقبة أهالي القطاع بشكل جماعي، وبدأ الحصار الإسرائيلي المصري الذي تزايد بشكل شديد على مدار السنوات التالية، فعلى الرغم من تيقن السلطات المصرية من أن الأنفاق والمعابر هذه المصدر الأول الذي يسد احتياجات القطاع الأساسية، إلا أن مبارك قرر إغلاق تلك الأنفاق بشكل كامل عبر إنشاء جدار فولاذي تحت الأرض لمنع أهالي القطاع من الوصول إلى سيناء، تنفيذا للفكرة الإسرائيلية، كما سحبت القاهرة سفيرها ووفدها الدائم في غزة، وإن كان وفدًا أمنيًا، إلا أن تواجده كان مهمًا على الأرض، وبعد سحبه أصبح هناك فراغ لأي دور مصري في القطاع. في عام 2008، ومع اجتياح الاحتلال الإسرائيلي للقطاع عقب انتهاء التهدئة التي دامت ستة أشهر وتوصلت إليها حركة حماس مع الاحتلال برعاية مصرية، ظهرت جليًا سياسة مصر المعادية لقطاع غزة، وذلك خلال لقاء وزيرة الخارجية الإسرائيلية، تسيبي ليفني، مع وزير الخارجية المصري آنذاك، أحمد أبو الغيط، حيث وجه أبو الغيط حينها اللوم لحركة المقاومة الفلسطينية حماس، واتهمها بالتسبب فيما تعرض له قطاع غزة من هجمات بشعة من قبل جيش الاحتلال الصهيوني، حتى أن بعض المراقبين قالوا إن إعلان إسرائيل للحرب صدر من القاهرة على لسان وزيرة الخارجية الإسرائيلية حينها، تسيبي ليفني. في عام 2010 تجدد القصف الصهيوني على غزة، في الوقت الذي رفض فيه الرئيس "مبارك" فتح معبر رفح، ونظرًا لاستمرار الحصار الجائر بحق أهالي قطاع غزة من قبل السلطات المصرية والإسرائيلية، تزايد الغضب الشعبي حول العالم تجاه القاهرة وتل أبيب وهو ما أدى إلى تسيير قوافل إغاثية عدة، لكن النظام المصري منع وصول معظمها إلى فلسطين بالاتفاق مع الاحتلال. مرسي.. توافقات سياسية عقب وصول الرئيس السابق، محمد مرسي، إلى مقاليد الحكم أظهر دعمه الواضح للشعب الفلسطيني وخاصة قطاع غزة، الأمر الذي أثر في سياسة مصر تجاه القطاع، حيث تم فتح معبر رفح بشكل كامل دون أي قيود، وسُهلت حركة المسافرين بشكل سلس وألغي نظام الترحيل التعسفي للمسافرين الفلسطينيين. في نوفمبر عام 2012، شنت قوات الاحتلال هجومًا جديدًا على قطاع غزة، فسارعت القيادة المصرية حينها لسحب السفير المصري من إسرائيل، ودعا وزراء الخارجية العرب إلى عقد اجتماع عاجل، كما طالبت مصر بعقد اجتماع طارئ لمجس الأمن الدولي، كما أوفد "مرسي" رئيس الوزراء حينها، هشام قنديل، إلى غزة على رأس وفد يضم عددًا من مساعدي الرئيس ومستشاريه والوزراء، كما أعلنت السلطات المصرية فتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة على مدار الساعة والسماح بعبور المساعدات الغذائية والطبية للقطاع، وفتح مستشفيات مدينة العريش لعلاج الجرحى الفلسطينيين. السيسي.. الانحياز للمعسكر الصهيوني على الرغم من أن الآمال كانت تقول أن فكر الرئيس، عبد الفتاح السيسي، هو نسخه كربونية من الفكر الناصري الذي تبناه الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، إلا أن الحقيقة منافية لكل هذه الأحاديث خاصة فيما يتعلق بالقضايا العربية عامة والفلسطينية على وجه التحديد، فالرئيس السيسي لم يعبر في أي مناسبة عن دعمه للمقاومة الفلسطينية أو عملياتها سواء الفردية منها أو الجماعية، ناهيك عن أنه خلال فترة حكم السيسي شهدت مصر تقاربًا في السياسة الخارجية غير مسبوقا مع الاحتلال الصهيوني وكان من الطبيعي أن يكون هذا التقارب على حساب القضية الفلسطينية عامة وأزمة قطاع غزة على وجه التحديد، حيث أخذ النظام الجديد موقفًا معاديًا من حركة حماس التي تُعد المُتحكم الأول في قطاع غزة، معتبرًا إياها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، ما وضعها في موقف غاية في الصعوبة. اتضحت المواقف العدائية بين القيادة المصرية في عهد السيسي وقطاع غزة وخاصة حركة حماس في العديد من الإجراءات التي اتخذتها القيادة المصرية منذ يوليو 2013، وعلى رأسها إغلاق معبر رفح الذي بات نادرًا ما يفتح أبوابه أمام الفلسطينيين حتى الحالات الطارئة منها، وإذا تم فتحه فيكون ذلك لساعات محدودة لا تتخطي الأربع وعشرين ساعة. إلى جانب معبر رفح يأتي تدمير الأنفاق التي تشكل شريان الحياة لأكثر من مليوني إنسان على جانبي الحدود مع قطاع غزة، حيث ركزت السلطات المصرية على هدمها وقطع شريان الحياة عن قطاع غزة دون التفكير حتى في حلول بديلة أو على الأقل تكثيف ساعات فتح المعابر، كما جاء ضخ الجانب المصري المياه في القناة التي أنشأها على حدود قطاع غزة، والمتمثلة في مشروع برك المياه المالحة على طول حدود قطاع غزة مع مصر، لتترك آثارًا سلبية على الأنفاق والتربة والمياه الجوفية على طول الخط الحدودي. خلال الحرب الشرسة والوحشية الأخيرة التي شنها الاحتلال الصهيوني في يوليو عام 2014 على قطاع غزة، وعلى الرغم من اشتداد القصف على القطاع، إلا أن الرئيس السيسي لم يظهر أي رد فعل إيجابي أو خطوة جدية على طريق إيقاف الحرب، فاكتفى بالإدانة والاستنكار والاتصال هاتفيًا بالرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وتعهده بالعمل على وقف العدوان في أسرع وقت ممكن، حتى أن مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت مقالًا يقول إن مصر لم تكن أبدًا وسيطًا للتهدئة في الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، وأن النظام المصري الحالي مستفيد من الاجتياح البري لقوات الاحتلال على قطاع غزة.