يلثم الهواء البارد وجه الفقير المتخذ من الرصيف سريراً فيبتسم، بينما يتسائل من يرمقه من بعيد عن سر تلك الابتسامة المرسومة على وجه لا يعلم ماذا يخبئ له النهار التالي ثم يلتفت إلى نفسه محدّثها مستفهماً إن كان هو شخصياً يعلم ما تخفيه عنه الساعات القادمة حتى مجيء الصباح. أثقلت الهموم قلبه ووشت ملامحه بما يحمل صدره من هموم وأعباء لا تتناسب وسنّه الصغير بينما يتابع مسار حياته التي سارت بأسرع مما ظن وتمنّى، فمن دراسة إلى عملٍ شاق، ومن عمل إلى ثورة، ومن ثورة إلى أحداث، ومن أحداث إلى كوارث، ومنها إلى مقعده الرابض فوق الرصيف المقابل للمقهى الذي لا يعرف إلى أين سيذهب بعد إغلاقه. ثقيل هو الحِمل الذي خدل له ساعداه، وظالم هو الحال الذي يؤول بذلك الشاب، الذي حمل هموم الجميع فوق رأسه، إلى أن أصبح منتظراً للسجن بين لحظة وأخرى، وها هو يجلس متفكّراً فوق مقعده كيف يمكن له أن يأمن شروراً حاقت به في تلك الليلة التي لا تشبه سابقاتها. إنها قصة خياليّة مستمدّة من الواقع وتلك هي مقدّمتها، بل لا ينطبق لفظ الخيال تفصيلاً على ملابساتها فقد أصبحت عادة يومية أن نجد أمثال ذلك الشاب البائس ممن لم يرتكبوا جرماً واحداً –إلا لو كان في حب الحياة إثمٌ- لقاء ما ينتظرهم خلف جدران سجون وأمام مكاتب تحقيقات ومنصّات محاكم بينما يقذفهم هذا وترميهم تلك بأقذع الألفاظ والتهم والتشهير، متغاضين عن فسدة يتخللون حياتنا اليومية ويذوبون في تفاصيلها ولصوص متنطّعين على حيواتنا ومستلزماتها يسترزقون من أكبادنا التالفة ورؤوسنا المعبأة بالهموم. مجرّد قصة شرعت في كتابتها ولم يمهلني الرُهاب من استكمالها بعد أن وجدتني أصف نفسي تارة وصديق عُمري تارة وجارتي الجميلة تارة أخرى. تُرى هل لو كُتبت تلك القصة سيُحاسب كاتبها بتهمة "الخروج عن حدود الأدب والدعوة للفواحش" كما اتُهم الكاتب أحمد ناجي؟ أم بازدراء الأديان كما اتُهم إسلام البحيري؟ أم لعله سيُتهم بمحاولة قلب نظام الحكم كحال مالك عدلي؟ وماذا لو شرع فقط في كتابتها! لعله وقتها سيُحاسب لكونه يبطن في صميم أعماقه السخط على ما يدور حوله وما يحيق بجيله من أحلام الإبادة والتعقيم ضد الحلم التي تسير على قدم وساق من ذوي القلوب حجرية الملمس والعصر. لا يعلم كاتب هذه السطور ما الذي يدفع أحدهم ممن يجدوا أنفسهم ناجحين وكائدين للعوازل وأعداء النجاح نحو إتلاف أي أمل في جيل كامل يمكن أن يخرج منه إبداع وبناء وتقدم وفكر، لا يعلم أحد في الواقع ما الدافع إلى توجيه حزمة التهم الجاهزة والمُعلّبة مسبقاً، والمعروف بحسابات العقل والمنطق أنها لا يُمكن أن تنطبق على كل أولئك في ذات الوقت إلا لو كانت هناك شبكة كاملة ممن كانت أعمارهم بين السادسة عشر عاماً والخامسة والثلاثين، وربما الأربعين عاماً وقد عهد أعضاء تلك الشبكة السريّة اللعينة التي تجمعهم على أساس السن إلى بعضهم البعض أن يتآمروا على كل شيء بداية من الأخلاق الحميدة التي يتحلّى بها مجتمعنا مروراً بحالة الرخاء والرغد والنهضة الاقتصادية التي نعيشها وصولاً إلى السيادة الوطنية والاستقلال الوطني، فرأى أحدهم أنه لابد من إسقاط تلك الشبكة الواسعة التي تستهدف حياتنا الجميلة وتعبث بها، وهاهم يسقطون أعضائها تباعاً حتى تشرق ذات يوم شمس على البلاد لنجدها بين مُسن ورضيع دون أجيال وسطى اللهم إلا من أعضاء حزب مستقبل وطن. ما يثير العجب هنا هو تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجه مفترش الرصيف في السطر الأول من مشروع القصة المُبتسر، بالتأكيد أنها ليست ابتسامة رضى عن الحال بشكل عام ولكن ربما كان يحسد ذلك البائس نفسه لأنه ليس موضع شك لانتسابه لتلك الخلية اللعينة التي تضم شباب البلاد كافّة وربما لأنه سبق وقد نال عقابه إفقاراً وإذلالاً بلا ثمن ولا جريمة هو الآخر، فيقول سرّاً "الحمد لله، جت سليمة".