درجت العادة على أن يمدح الشعراء الحكام بغية تحقيق أي منفعة من وراء هذا المدح، أو على الأقل تجنبًا لشره، لكن أن تصطدم بالحاكم في حياتك، وتُسجن في عهده، وحين يموت ترثيه، وتذكر محاسنه، متجاوزًا كل ما سببه لك، هنا يصبح الأمر غريبًا بعض الشيء. في التقرير التالي نرصد 3 شعراء تعرضوا للحبس في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لكنهم بعد وفاته رثوه بالدموع، مكلومين من صدمة فقدان زعيم لن تجود الأمة بمثله إلا على فترات كبيرة. عبد الرحمن الأبنودي يعتبر عبد الرحمن الأبنودي واحدًا من الشعراء الذين شهدت علاقتهم بعبد الناصر تغيرات كثيرة، حيث مر الأبنودي بتجربة السجن في عهده، وكتب عنها، وحين مات عبد الناصر، رثاه في قصائد عدة، وظل يتحدث عنه إلى أن رحل عن عالمنا العام الماضي. يقول الأبنودي عن فترة حبسه التي حدثت عام 1966 إن السجن لم يغير وجهة نظره فيه، موضحًا أن ذلك الأمر حدث عقب انضمامه إلى تنظيم "وحدة الشيوعية" الذي كان هدفه تعليم الماركسية، ساردًا "مكثت في السجن 4 أشهر، وأفرج عني عقب دعوة عبد الناصر للمفكر سارتر لزيارة مصر، حيث اشترط الأخير الإفراج عن كافة المثقفين، وهو ما حدث". ومن قصائده التي هاجم فيها عبد الناصر قصيدة "الله يجازيك يا عم عبد الناصر" وقال فيها: الليل مليّل والألم عاصر لسه اللي بيبيع أمته كسبان وكل يوم أطلع أنا الخاسر الله يجازيك يا عم عبد الناصر وفي قصيدة "البدل" قال: تقدروا تخرجوا م الأغلال اللي كتفكم بيها اللي علمكم لعبة رأس المال لو غيرتوا الحال أقسم قدام شعبي أغني لكم من قلبي وعمري ما أغني تاني لجمال وقال في "مواويل وتناتيش للذكرى": من يمدحُه يطلع خاسر ويشبَّروا له أيامه يعيش جمال عبد الناصر يعيش بصوته وأحلامه في قلوب شعوب عبد الناصر ورثى الزعيم الراحل في "موال لجمال" بقوله: وألْف رحمة على اللى لِسَّه قُلْنا وقال اللى مَضَى وذمِّته مَثَل جميل يتقال ما هي نادْرة في مصر حاكم يطلع ابن حلال حاكم يِدادي الجميع ويبوسْ رقيق الحال وده عِشْقِتُه فلاحين طلَبة جنود عُمّال وخاض معارك جِسام مين طلّع الاحتلال؟ مين اللى صحَّى الشعوب تكسَّر الأغلال؟ ويْبُخُّوا أكاذيب فى سيرتُه يسمِّموا الأجيال من بعد ما شفنا غيرُه فهمنا عهد جمال أحمد فؤاد نجم يعتبر أحمد فؤاد نجم أحد الشعراء الذين مروا على السجن في عهود حكام مصر المختلفة، فقد سجن في أوائل الخمسينيات عقب إلغاء معاهدة 1936، وسجن عام 1960 بتهمة الاشتراك مع زميل له في تزوير أوراق حكومية. وفي السجن التقى مع الروائي عبد الحكيم قاسم، وهناك ظهرت موهبته الشعرية، فكتب ديوان "صور من الحياة في السجن"، والذي فاز بالجائزة الأولى في إحدى مسابقات وزارة الثقافة. وعقب هزيمة 1967، وتحديدًا في اليوم الرابع، كتب نجم واحدة من قصائده التي ما زالت حية إلى يومنا هذا، وهي "رسالة"، وقدمها في صورة خطاب أرسله حسن محارب خفير بالصعيد إلى ابنه عبد الودود، والتي كان مطلعها "واه يا عبد الودود.. يا رابض على الحدود»، وتغيرت بعد ذلك إلى "واه يا عبد المتعال.. يا رابض على القنال" بعد معرفته بالهزيمة. وفي نفس الليلة كتب واحدة من روائعه أيضًا، وهي "بقرة حاحا". كون نجم مع الشيخ إمام ثنائيًّا ما لبثا أن اعتقلا؛ لكثرة أغانيهما السياسية المنتقدة للنظام، فما إن يخرجا من السجن حتى يعودا إليه. وفيه قدما أعمالًا لا تنسى. ففي إحدى قصائده قال نجم: اتجمعوا العشاق في سجن القلعة اتجمعوا العشاق في باب النصر اتجمعوا العشاق في الزنزانة مهما يطول السجن مهما يطول القهر مهما يطول السجن في السجانة مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر وإزاء هذا الوضع لم يجد الرئيس عبد الناصر أمامه سوى اعتقالهما في إبريل عام 1969، وبقيا في السجن لمدة عامين. ولما مات عبد الناصر، أفرج عنهما السادات في أكتوبر عام 1971 في أعقاب التصفية النهائية للمعتقلات. ورغم ما فعله عبد الناصر في نجم، إلا إنه اعتبره ضميرًا للشعب، واصفًا إياه بامتلاكه صفة "الجدعنة"، مثنيًا على معاركه التي خاضها ضد الاستعمار والأمريكان، الأمر الذي أكسبه شعبية طاغية، ورثاه بقصيدة "زيارة ضريح عبد الناصر"، والتي قال فيها: وع المزاج ظابط فاجومي من جنسنا مالوش مرا عابت فلاح قليل الحيا إذا الكلاب سابت ولا يطاطيش للعدا مهما السهام صابت عمل حاجات معجزة وحاجات كتير خابت وعاش ومات وسطنا على طبعنا ثابت وإن كان جرح قلبنا كل الجراح طابت ولا يطولوه العدا مهما الأمور جابت نزار قباني واحد من الشعراء الذين اصطدموا بنظام عبد الناصر، عقب هزيمة 1967، حيث قدم قصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة"، وفيها هاجم كافة الأنظمة العربية، وقال: لو كنتُ أستطيعُ أن أقابلَ السلطانْ قلتُ لهُ: يا سيّدي السلطانْ كلابكَ المفترساتُ مزّقت ردائي ومخبروكَ دائمًا ورائي عيونهم ورائي أنوفهم ورائي أقدامهم ورائي كالقدرِ المحتومِ كالقضاءِ يستجوبونَ زوجتي ويكتبونَ عندهم أسماءَ أصدقائي يا حضرةَ السلطانْ لأنني اقتربتُ من أسواركَ الصمَّاءِ تلقى نزار عقب هذه القصيدة هجمة قوية من مؤيدي الرئيس، حتى إنهم طلبوا منعه من دخول مصر ومصادرة أعماله، فما كان منه إلا أن أرسل رسالة للرئيس عبد الناصر، قال فيها "إننى لم أخترع شيئًا من عندى، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية مكشوفة كالكتاب المفتوح"، الأمر الذي دفع الرئيس إلى إنهاء حالة المصادرة ضده، لكنها كانت على الورق فقط، فقد لاحق أنصاره نزار، واستمرت حالة العداوة كما هي. وعقب وفاة الرئيس عبد الناصر، رثاه نزار في واحدة من أروع القصائد، والتي حملت اسم "الهرم الرابع"، قال فيها: السيّدُ نامَ كنومِ السيفِ العائدِ من إحدى الغزواتْ السيّدُ يرقدُ مثلَ الطفلِ الغافي في حُضنِ الغاباتْ السيّدُ نامَ وكيفَ أصدِّقُ أنَّ الهرمَ الرابعَ ماتْ؟ القائدُ لم يذهبْ أبدًا بل دخلَ الغرفةَ كي يرتاحْ وسيصحو حينَ تطلُّ الشمسُ كما يصحو عطرُ التفاحْ