"في صبرا تغطى جبال من الذباب جبالا من الجثث"… لا أعرف لماذا تذكرت هذه الجملة، التي وصف بها الروائي المبدع بهاء طاهر وضع مخيم صبرا وشاتيلا صبيحة المذبحة التي وقعت فى يوليو 1982، في روايته الشهيرة "الحب في المنفي"، بعدما انتهت عملية التصفية المعنوية التي جرت وقائعها على موقع "فيس بوك"، لطالب كلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا، حسام مصطفى، الذي نحت تمثالا نصفيا للرئيس عبدالفتاح السيسي، ضمن النشاط العملي لطلاب الكلية. شخصيا، شاركت في هذه الحملة، التي وصفت الشاب بأبشع الألفاظ والصفات، أقلها النفاق والانتهازية، وأكتب هذا المقال بعدما وصلني توضيح من الصديق منصور الشريف، عضو هيئة التدريس بكلية الفنون الجميلة بالمنيا، وبعدما كتب حسام تدوينة عبر صفحته الشخصية، يشرح فيها تفاصيل الأمر، ويشكو لله من شاركوا في الحملة ضده. الأستاذ منصور قال في رده: "مشروع تخرج حسام لم يكن تمثال السيسى، هو نحت تمثالا آخر ضمن مشروعات التخرج حجمه 4 أمتار تقريبا، وهو طالب متفوق، حصل في سنوات الدراسة الأربعة على تقدير امتياز، وتمثال السيسى كان ضمن أعمال السنة، وبعض زملائه نحتوا تماثيل لأستاذ المادة ورئيس القسم". فى تدوينته قال حسام إن نظام الكلية يقتضي من الطلاب نحت تماثيل كثيرة طوال السنة، يحددها أساتذة المواد لا الطلبة، وتمثال السيسى كان واحدا من تماثيل التيرم الأول، أقره الأساتذة على دفعتهم، وكل طالب نحت تمثالا حسب قدراته، و"مش ذنبي إني شاطر وتمثالى كان الأفضل، هل ستحاسبوني على موهبة منحني الله إياها؟ أم ستحاسبوني على عمل ليس من اختياري؟". واقعة حسام كاشفة لحجم الخلل والاستقطاب الذي ضرب المجتمع، وهو استقطاب ترسخ في الشخصية المصرية منذ زمن، وكشف التناحر السياسي بعد ثورة 25 يناير فجاجته، وصار كل من يؤيد السيسي منافقا، وكل من يدعم الثورة "شمام كُلّة" ومن يدافع عن الإخوان "إرهابيا"، تحولنا جميعا إلى ذباب ينهش كل منا جثة الآخر، والرائحة تزكم أنف الوطن، وتحوله إلى قطعة من الجحيم على هذه الأرض. لو كان حسام اختار نحت تمثال لخالد سعيد ربما تحول شاتموه إلى مادحين، ومادحوه إلى أعداء وشاتمين، ولو كان التمثال لمحمد مرسي أو حسن البنا لهلل له الإخوان، وبالتأكيد كان سيحظى بقدر لا بأس به من انتقادات الآخرين، المعادين للجماعة وداعميها. أذكر أن شقيقي الأكبر حلق لحيته وترك حزب "النور" السلفي، الذي كان منتميا إليه، بعدما شعر بنبذ المجتمع له، وقال لي: "حسيت بالغربة، ناس كتير بتبص لي بخوف وتشكك، سيدة مسنّة حاولت مساعدتها في حمل أشيائها، ولما رأت لحيتي صرخت وهربت"، وعلى الجانب الآخر عاني صديقي الملحد من حملة شرسة شنّتها عليه زوجته وأبناؤه، انتهت بمغادرته المنزل والرحيل عن المحافظة بأكملها. ما نمر به هو عملية تفكيك للمجتمع بأيدينا وإرادتنا، كل منا يبحث عن "منطقة أمان وهمية"، ينضم فيها إلى من يشبهونه فى الفكر والسياسة والطبقة الاجتماعية، صار من يخالفنا عدوا، ليس مختلفا أو حتى خصما ضمن خصومة شريفة تحترم حق الإنسان فى الاختيار، ومع غياب النظام الذي يحمي الجميع، وتدهور الوعي الثقافي الذي يضمن التعايش في ظل الاختلاف، كونت كل مجموعة جزيرة منعزلة، لها حدود وهمية، تهب مفزوعة دفاعا عنها إذا ما اقترب منها أي مخالف. في مقال لها بعنوان "خطورة الخلاف في مجتمع واحد"، نشره موقع "حركة مصر المدنية"، تقول الكاتبة داليا عبدالحميد: "لو فكرنا في هدم مجتمع نامٍ لا يمتلك معظم أدوات النظام، فعلينا أن نحول الاختلاف والتنوع فيه إلى خلاف وصراع، بإثارة الاختلاف في غير موضعه ووقته، ليكون سببًا في كسر السِلم الاجتماعي، عبر الجهر بكراهية الاختلاف، في الدين أو العرق أو اللون أو الجنس أو الطبقة أو الثروة، وبذلك يأكل المجتمع بعضه حقدا وكراهية وغضبا وشكًّا، ويصبح الجدل والسفسطة بديلا للحوار، حتى يحدث الهلاك الكامل، وهذه الحالة لا يمكن الخروج منها بأمان، إلا بالتدرج الإصلاحي، والنقاش الجاد، ومحاربة الإجرام والتطرف والتشدد، في إطار البحث عن نظام أكثر وعيًا وعدلا، ويحمي الجميع". المسؤولية هنا تقع على عاتق الجميع، الدولة التي تصر على الفشل في صياغة نظام عادل يحمي المواطنين، والمجتمع الذي يسعى كل يوم إلى التخلص من فطرته السليمة التي تتحلى بالقيم والإخلاق الإنسانية، وتصون حق التنوع والاختلاف. لقد خلقنا الله شعوبا وقبائل، سماتنا الأساسية مختلفة، وأمرنا بالتعايش، وأن يكف كل منا الأذى عن الآخر، فلماذا تخلينا عن إنسانيتنا وتشبثنا بالعداء؟ ولماذا بدلنا فطرة التواصل الفاعل والإيجابي واستبدلناها بالحروب الصغيرة والتافهة، التي لا تفضي لنصر؟ ولماذا نصر على تبادل أدوار الذباب والجثث، مع فارق أننا لسنا في مخيم صبرا، والمذبحة ليست إلا فعلا داخليا مجانيا وأهوج؟ وهل من أمل في الخروج من البِركة أم علينا انتظار من يرشّنا جميعا بمبيد الذباب؟