ليست هذه هي المرة الأولى التي تعيش بلادنا فيها فترة مثل هذه التي نراها اليوم ونعيشها، فمنذ أزمنة سحيقة وكانت تطال البلاد من حين لآخر فترات خمول وضعف، يمر عليها التاريخ سريعًا، أو يدونها المؤرخ على هامش الصفحة؛ ليحيط القارئ علمًا أنه تجاوزها؛ لقلة أهميتها، أو لعدم وصول معلومات كافية عنها. ولسنا هنا بصدد الحديث عن فترات الضعف العادية الاقتصادية مثلًا أو العسكرية أو الاحتلال الأجنبي، وإنما هناك فترات شهدت انحطاطًا عامًّا وانحلالًا كليًّا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا، فكانت غيابًا لشمس مصر المشرقة. في العصور القديمة يلاحظ أي قارئ للتاريخ أن المؤرخين يقسمونها إلى عصر الدولة القديمة والدولة الوسطى والدولة الحديثة، ويلاحظ في الهامش بين كل عصر وآخر فترتين يطلق عليهما في الغالب عصر الاضمحلال الأول وعصر الاضمحلال الثاني. ويمر كاتب التاريخ سريعًا على عصر الأسرات الأخيرة ال 28 و29 و30، أو ما يُسمَّى العصر المتأخر، ثم يعاود من جديد، بعد مئات السنين، أن يمر سريعًا في هامش صفحات التاريخ على فترات اضمحلال بين الحين والآخر، تارة تحت سيطرة بيزنطية، وتارة عصر من الفوضى أعقب وفاة الظاهر بيبرس، فتوالى قادة العسكر على اغتصاب البلاد والعباد وقطع الأرزاق دون قانون حكم أو آلية لاستلام السلطة سوى القوة والبطش. وجدت بعد التأمل أن هذه الفترات تجمعها صفات مشتركة محددة – رغم اختلاف الزمان والأشخاص والثقافة واللغة والدين – هذه الصفات والملامح يستطيع منها قارئ التاريخ بذكاء أن يدرك ويعرف غيرها من عصور الاضمحلال، ويقيم الوضع بشكل أقرب للصواب: منطق القوة: في كل هذه الفترات التي غابت فيها شمس مصر لفترة من الزمن، كان منطق القوة هو الحاكم، فمن كانت له الغلبة، أصبحت له السلطة. وتكون دائمًا ملامح الصراع على السلطة والتضحية بالناس هي أهم ما يميز هذه الفترات، ونجد أن أغلب حكام هذه الفترات حاولوا التشبه بمن سبقهم من حكام عظام، فقاموا بفرض هيبتهم على الناس بالقوة والبطش والسجن والقهر؛ ليثبتوا لأنفسهم أنهم لا يقلون شأنًا عن حكام عظماء، كسنوسرت الثالث أو تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو بطليموس فيلادلفوس أو المعز لدين لله الفاطمي أو الظاهر بيبرس أو محمد علي باشا، فيشترون صورة وهمية لعظمتهم بالقوة والبطش. منطق مهادنة الأعداء: يتسبب الصراع على السلطة وعشقها في تأجيل أي خطر آخر والاستسلام للأعداء، وقد يصل أحيانًا للتحالف معهم ضد الأخ والابن والولد، فنرى في عصر الاضمحلال الثاني الذي لحق عصر الدولة الوسطى أن الحكماءفي بدايته كانوا يحذرون من خطر "عامو" الهمجالذين بدءوا يهاجرون إلى مصر، ويستوطنون فيها بحذر وتخطيط، ولكن الصراع على السلطة جعل أغلب الأمراء يتغافلون عن ذلك، بل استعان بعضهم بال "عامو"، أو من سيعرفون باسم "الهكسوس" كجنود؛ ليضرب منافسًا له على السلطة. وفي عصور أخرى استعان بعضهم بالإفرنج "الصليبيين" في صراع على السلطة، أو من أجل توكيد سيادة، وغير ذلك من الأمثلة كثيرة. منطق الاحتماء بالدهماء: ولأن أغلب حكام هذه الفترات كانوا عديمي الموهبة والرؤية والفكر والمعرفة؛ كانوا لا يجدون راحتهم إلا بتهليل وتصفيق جهلاء الناس، وكانت كل جهودهم منصبة في حشد أكبر تأييد لهم من الجهلاء والدهماء الذين كان يسهل خداعهم وتلبيس الحق بالباطل لديهم. تآكل الأطراف: في كل هذه العصور تقريبًا تبدأ ملامح الضعف في الظهور دائمًا في الأطراف، فتفقد البلاد جزءًا من أراضيها تحت مسمى احتلال أو تسوية أو بيع أو تسويف لمعركة سيأتي يومها، وخصوصًا ما كانت مصر تتآكل على الفور في عصور اضمحلالها شرقًا في سيناء وفلسطين، أو جنوبًا في النوبة ومنطقة الجنادل وجنوب الصحراء الشرقية. غياب الهوية: من أهم ملامح هذه الفترات أيضًا غياب هوية أهل مصر، فتراهم يتحدثون بطريقة مستوردة غريبة عنهم، ويتفاخر كل واحد منهم بأنه جزء من هوية أجنبية، ويصاحب هذا شعور عام بأن كل دول العالم ومناطقه هي أفضل من مصر والمصريين، فيذوبون سريعًا في أي تأثير قادم من الخارج، ويسعون للهجرة أو للحصول على جنسية أخرى، كما حدث من سعي دءوب في بدايات الاحتلال الروماني لعدد كبير من المصريين للحصول على المواطنة الرومانية؛ ليعيش في مصر كمواطن روماني لا مصري، فيحصل على حياة كريمة ووظيفة وأبهة. وكم كان يدعي كثيرون أن أصولهم تركية أو شركسية أو أنهم عرب من قريش في عصور اضمحلال حكم العسكر من المماليك. انهيار الإبداع: ونتيجة لغياب الهوية يفقدون القدرة على الإبداع والتأثير، حتى إن الباحث سيرى بشكل غريب تأثير النحت اليوناني على النحات المصري في عصور الأسرات 29 و30، رغم أن النحت كان عمره في مصر وقتها أقدم من كل مدن اليونان، ولكن نرى أن نحاتين مصريين كانوا يتفاخرون بأن تماثليهم تشبه تماثيل "الخواجات" الذين يعيشون في نقراطيس في الدلتا! ينطبق هذا على الفن في كل عصور الاضمحلال التالية، حتى يصل لفنون كالمسرح أو السينما أو الدراما، وحتى في الصناعة اليدوية وغيرها من الحرف. تصاعد قوى جديدة في المنطقة: في كل هذه الفترات، وبسبب ضعف مصر، سرعان ما يجد قارئ التاريخ أن هناك قوى لم يكن لها شأن يذكر في تزعم المنطقة من قبل تبدأ في الصعود، كحال الهكسوس والآشوريين والليبيين والعرب والأتراك العثمانيين والبدو وغيرهم. وهناك صفات أخرى بالطبع، كوصول حكام صغار أو غير مؤهلين للسلطة وانهيار التعليم، وغير ذلك من أمور، حاولت أن أذكر أهم الملامح وأكثرها اجتماعًا بين تلك الفترات، ولكن ينقصنيالآن فقط ألا أغفل صفة وملمحًا من أهم الصفات التي تشترك فيها كل عصور الاضمحلال بلا استثناء: كتابة على هامش صفحات التاريخ: حيث نرى أنه يجمع كل فترات الاضمحلال نهاية دائمًا بعهد جديد، تصل مصر فيه لذروة مجدها وقوتها، وكذلك تشترك كل هذه العصور في أنها مكتوبة على هامش صفحات التاريخ، ولا يذكر حكامها أو أحداثها أحد إلا المتخصصون، فلا يعلم أحد أسماء من حكموا إلا فيما ندر، وليس لها آثار ولا ذكر إلا أن يقول قائل: مر من هنا يومًا فلان، فلا يسمعه إلا هاوٍ أو دارس أو متخصص.