على نحو ما استطاعت القدس أن تصهر في شخصيتها الآسرة، كل الشعوب والأمم التي جاءت إليها واختارت أن تعيش فيها، على نحو ما صنعت القدس من كل تلك الثقافات التي مرت عليها مزيجا خاصا صبغته بصبغتها؛ حتى أن آثارها اليوم على تنوعها تبدو مقدسية أكثر من أي شيء آخر. استطاع كورش ملك الفرس أن يهزم البابليين، وأن يدخل القدس، وكان ذلك نحو عام 538 ق.م وقد فرح اليهود لأن كورش متزوج من يهودية، وهي من توسطت لديه للسماح بعودة اليهود الذين أخرجوا في السبي- من بابل إلى القدس، فعاد بعضهم وفضل البعض البقاء في بابل. وبمجرد أن عاد اليهود إلى القدس بدءوا في بناء الأسوار، وكذلك الهيكل لكن الشعوب عندما رأت ذلك اشتكت إلى ملك الفرس فقام بمنعهم، وكانت حجة الشعوب كالحوريين والعمونيين أن اليهود إذا تحصنوا امتنعوا عن أداء الجزية، وبارزوا الناس بالعداوة، لكن الملك دارا خال كورش عندما تولى الحكم سمح لليهود باستكمال بناء الصور والهيكل، فانتهوا منهما نحو515 ق.م وظلت القدس أو (أورو- سالم) كما كانت معروفة آنذاك تابعة للفرس تؤدي لهم الضرائب، وتؤمن لهم الطرق إلى مصر إلى أن سقطت في أيدي الإسكندر المقدوني، وكان ذلك في 332ق.م وقد عامل الإسكندر أهل المدينة معاملة حسنة ووضع عنهم الجزية ودعاهم للانضمام إلى جيشه، وعندما مات الإسكندر صارت المدينة من نصيب القائد بطليموس الذي أراد اليهود ألا يدخلوا في طاعته وحاربوه، لكنه أستطاع أن يهزمهم ويخضعهم ويأسر منهم نحو مئة ألف قام بإرسالهم إلى مصر، ثم فرض عليهم الضرائب، وعين عليهم جابيا منهم هو "يوسف بن طوبياس" ففعل بهم الأفاعيل وسامهم سوء العذاب، ثم استولى السلوقيون على المدينة عام168ق.م في عهد ملكهم أنطيوخس ابيفانس الذي دك حصون المدينة، وقتل من اليهود ثلاثين ألفا في ثلاثة أيام، وحظر عليهم إقامة شعائرهم الدينية، وأجبرهم على انتهاك السبت، بعد أن تبعه منلاوس كبير أحبار اليهود الذي خان قومه طمعا في المنصب. واستمرت الصراعات والحروب تضرب المدينة، وما تلبث الثورة أن تشتعل مجددا كلما أخمدت نار الحرب بين اليونانيين والمكابيين، وبين الحكام اليونانيين بعضهم البعض، وعندما آلت الأمور إلى المكابيين ما ليثوا أن تنازعوا واستعدى كل طرف على خصمه دولة من دول الجوار، إلى أن استطاع "بومبي" الروماني أن يستغل الموقف ويقوم باحتلال القدس التي كانت تدعى آنذاك "هيروسليما" وكان ذلك عام 63 ق.م. آلت الأمور فيما بعد إلى هيرودس سنة 37 ق.م الذي أقنع قادة روما بأنه المخلّص، فتم تنصيبه ملكا على اليهود، وهو آدومي في الأصل اعتنق اليهودية ثم خرج على المكابيين الذين قتلوا أباه، واستطاع هيرودس بمعاونة أنطونيوس أن يقضي على المكابيين، وأن بقتل آخر ملوكهم المدعو " أنتيكانوس". حكم هيرودس نحو أربعين سنة، أخضع فيها اليهود وانحاز للرومان واستأصل شأفة المكابيين، وتوفي قبيل ميلاد المسيح- عليه السلام- ولم يستطع ابنه الذي تولى من بعده أن يسيطر على إدارة البلاد بسبب ما قام به اليهود من اضطرابات، فاستنجد بحاكم سوريا والحارث ملك العرب فأرسل كل منهما له بعشرين ألفا من المقاتلين، استطاع بهم أن يقضي على ثورة اليهود ثم أخذ منهم ألف أسير قتلوا صبرا، وانتهى الأمر بتحول البلاد إلى إقليم روماني عاصمته قيصرية بدلا من "هيرو ساليما" التي لا تتوقف فيها الفتن والثورات. وتم تنصيب بيلاطس البنطي حاكما على عموم اليهودية، وعندما وصل استقبله اليهود بالوجوم، وحاولوا الثورة عليه فقمعهم وأخمد ثورتهم ونهب خزائنهم، وأقام قناة تربط المدينة ببرك سليمان، وكان اليهود قد عانوا الأمرين بسبب نقص المياه حتى فشت فيهم الأمراض لكنهم لم ينفقوا فلسا واحدا لعمل القناة، وقد أقام بيلاطس بعض الإصلاحات، قي المدينة التي كانت طرقها ضيقة، ومنازلها متلاصقة، وتولى بعد بيلاطس خلفه "مرشلوس" ثم "هيرودس أغريبا" الذي حدث في عهده بعض الوقائع بين اليهود والأدوميين ثم حارب هو نفسه الحارث ملك العرب، وهزم وكسر جيشه فوقع عليه غضب روما التي نفته عام 44م ليحكم بعده كسبيوس فادوس الذي سادت عهده الاضطرابات والفتن، واشتعلت الأحداث مجددا بين العرب واليهود، ولما علم الوالي أن العرب هم أصحاب الحق انحاز لهم، ونكَّل باليهود وأبعد المشاغبين عن المدينة، لكنه عُزل من قبل روما وخلفه طيباريوس إسكندر وهو أحد اليهود المرتدين، فقام بقتل اثنين من كبار زعماء اليهود بعد أن اتهمهما بالتحريض على الثورة. وتستمر الثورات والاضطرابات حتى أطلق الرومان على القدس مدينة الفتن ، إلى أن كان عام 70م الذي شهد حصار المدينة على يد القائد الروماني تيطس، وكان الرومان يطلقون عليها آنذاك "سوليموس" وعندما دخلها بجيشه الذي تجاوز الثلاثين ألفا، قام بإحراق الهيكل، وهدم الأسوار والبيوت وأعمل القتل في أهل المدينة؛ حتى بلغ عدد القتلى في بعض التقديرات ستمئة ألفا، ومن بقي من أهلها على قيد الحياة بيع في أسواق الرقيق، ولم يبق في المدينة التي خربت تماما سوى حاميتها الرومانية، ثم ما لبث المسيحيون أن عادوا إليها حوالي عام 80م، أما اليهود فقد حُظر عليهم تماما العودة إلى المدينة. ولكن اليهود لم يهدأ لهم بال واستطاعوا التسلل إلى المدينة بسبب ضعف الحامية، وكثر عددهم واستمروا في إحداث الفتن والثورات حتى عام 106م في عهد الإمبراطور تراجان لكن الحاكم الروماني نجح مجددا في إخماد ثورتهم، ثم تولى "إدريانوس" العرش وعزم على التخلص نهائيا من اليهود، واشتعلت المدينة بالغضب بعد أن حظر الحاكم الروماني أكيلا الختان، ومنع قراءة التوراة، واحترام السبت، واضطر الرومان إلى تغيير حاكمين فجاءوا ب"تورنوس روفوس" ثم "يوليوس سيفيروس" الذي احتل المدينة، وقهر الثوار وقام بذبح قائد اليهود "بارقوخيا" وقتل من اليهود يومئذ خمسمئة وثمانين ألف نسمة بحد السيف، غير من ماتوا تجويعا وإمراضا وإحراقا، ومن تبقى منهم تم طرده من المدينة، وتفرق اليهود في جميع الأنحاء، ثم أمر "إدريانوس" بهدم المدينة تماما حتى سويت بالأرض، ثم أمر بإنشاء مدينة جديدة مكانها أطلق عليها اسم "إيليا كابيتولينا" ثم قام عام135م بطرد المسيحيين أيضا وأمر بردم المكان وبنى فوق الجلجثة والقبر هيكلين وثنيين ونصب فوقهما تمثالين للمشترى والزهرة. بعد ذلك توسع الرومان في العمران بالمدينة فأقاموا المعابد والحصون، وعبَّدوا الطرق واهتموا بإصلاح الجسور وإقامة السدود وتوفير مصادر للمياه العذبة بالمدينة، بشق القنوات والتوسع في إنشاء الصهاريج، والمجاري، ولكن هذه الآثار لم تعمِّر طويلا إذ أصابها التهدم والخراب ولم تلق الصيانة الواجبة بسبب تلاحق الأحداث واشتعال الحروب والثورات، كما انتهى معظمها إلى الاندثار التام بحلول عام 614م والذي سيشهد سقوط المدينة مجددا في أيدي الفرس، وكان نور البعثة المحمدية قد أشرق في مكة، فأصبحت مدينة الله المقدسة على بعد خطوات قليلة من الفتح الإسلامي.