مجاهدة النفس ومقاومة نزعاتها وتهذيبها وإقامتها على الجادة وتدريبها على معالي الأمور من أصعب الأشياء، ومع صعوبتها التي يدركها كل واحد من نفسه بما يشبه الضرورة، فقد اتخذها المتصوف منهاجا لازما، وغاية أخلاقية لا يتنازل عن محاولة تحقيقها في أرض الوجود. رصد الصوفي أعداءه، فوجد أن أعدى أعداءه عدوه الذي بداخله، نفسه التي بين جنبيه، يقودها إلى الخير فتأبى عليه، إن أصغى إليها لم تأمره إلا بالسوء، تمكن منها داء الهوى، وهو كما يقول العارف بالله ابن عطاء الله السكندري (ت709ه): "تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال"، وقال: " لا يُخاف عليك أن تلتبس الطرق عليك، وإنما يُخاف عليك من غلبة الهوى عليك"، فمن ثم فال: " إذا التبس عليك أمران فانظر أثقلهما على النفس فاتبعه؛ فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا" وقال صاحب البردة الإمام البوصيري رحمه الله: وخالف النفس والشيطان واعصهما …وإن هما محضاك النصح فاتهم. وقال: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم. رأى الصوفية إذن أن مخالفة النفس من أوجب الواجبات، وأنه لا يستقيم للصوفي سير إلى الله إذا استرسلت نفسه مع مراداتها، بل رأى أن النصح إذا جاء من النفس فهو في مكان الاتهام؛ لأن النفس أمارة بالسوء إلا من رحم الله. لكن كيف السبيل إلى مخالفة النفس وإخراج حلاوة الهوى من القلب؟ ها هو ابن عطاء ذاته بعد أن بين أن تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال، يصف لنا الدواء في كلمتين، فقال: " لا يخرج حلاوة الهوى من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق"، أي: خوف من الله، خوف من التردي في الخسران، خوف من سوء المصير، وشوق إلى الله الحق، شوق إلى حياة الاستقامة، شوق إلى سلوك الصالحين وطيب حياتهم ومآلهم، خوف يزعجك فتنتفض ساعيا إلى تغيير النفس وإلزامها كلمة التقوى، وشوق يقلقك عن الغفلة والدعة والبعد، فيقذف بك في ميدان يقظة القلب مع الله والتنعم بالقرب منه. ومما عرفوا به التصوف أنهم قالوا: "التصوف أن يميتك الحق عن نفسك ويحييك به"، ومعنى يميتك عن نفسك أن يميت فيك صفات النفس الذميمة، ومعنى يحييك به أن تبقى بالله بعد أن فنيت عن نفسك، فلا تتكلم ولا تصمت إلا بالله، ولا تفعل أو تترك إلا بالله، ومعنى ذلك أنك تسأل نفسك دائما في كل ذلك ما هو مراد الله مني، وكيف أحقق في كل موقف ولحظة ونفس عبوديتي لله فيه، فلا غرو أن قالوا: "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق"، ففي كل نفس يدخل أو يخرج طريق إلى الله، ولذا قالوا في تعريف التصوف كذلك أنه: " مراعاة الأنفاس وحفظ الحواس" أي: مراعاة ألا تمر عليك لحظة أو نفس إلا أن تكون بالله ومع الله وإلى الله، وأن تحفظ حواسك التي خلقها الله فيك من أن تستعملها إلا في ما يرضي الله تعالى؛ لتكون بذلك مؤديا شكر المنعم عليك؛ فلذا قد عرفوا الشكر، وهو من أجل العبادات التي يلتفت إليها الصوفي، فقالوا: "الشكر هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما من أجله خُلِق". فالتصوف إذن رحلة إلى الله وجد في السير إليه وقطع للمسافات في هذا السير المعنوي بالقلب، فالسير الحقيقي هو سير القلب إلى مولاه، والطي الحقيقي كما قال ابن عطاء الله: "أن تطوي مسافة الدنيا عنك حتى ترى الآخرة أقرب إليك منك". وللحديث بقية بإذن الله.