لا يكترث الكاتب إلا لزاويته، ولا ترى عينه سوى ذلك المشهد الذي ستنطلق منه كافّة الأحداث، وترصد حواسّه مشاعر هذا وتلك لتترابط كافة الخيوط قبيل انفراجها، ثم تنفرج لتترابط مرّة أخرة ما بين خطوط العُمر والحظ في كفّيه. يُحارَب الفن في مِصر الآن كما كُل شيء قد يأتي على الناس بالراحة والسلام والجمال، يُحارب بتلك الطريقة التقليديّة كالحق الذي يُراد به باطل على سبيل البداية، قبل أن يصبح الفن ممنوعاً منعاً باتّاً بعد أن يأخذ التدرّج مجراه كما اعتدنا في كُل شيء. عِشت هذا العصر –بكُل أسف- وها أنا ذا أمارس هذا التورّط الكريه رغماً عنّي، أستيقظ وأبات في تلك الحقيقة الحادّة كسيف يزيد والمثقلة بالهموم كرأس الحُسين. ما أصعب التجارب التي تُكتَب ولا تُعرَض، ما أقساها تلك الهفوات التي تحدث بينما ينام الكاتب أو يسرح في شيء آخر، ما أقبح ذلك العصر، وما أقبح تلك الرائحة التي تملأ الفراغات بين جزيئات الهواء الممتدّة من يابسنا إلى عنان السماء، نعم ممسكين بأقلامنا لنرصد التاريخ ونكتبه فتتسلل تلك الرائحة إلى أنوفنا لتعمي أعيننا التي لم تعد ترى الحد الأدنى من الجمال الكافي لمواصلة الحياة. نعاصر أصعب فترات التاريخ ونقابلها بملابسنا التي مزّقها الشقاء إلى آلاف القطع المتّسخة، تلاحقنا الرائحة القبيحة في كُل مكان، وكأننا نشتَم رائحة اليأس كتمهيد لرؤيته أو نستنشق الهواء المنبعث من مقبرة الجَمال الذي يُقتَل بشكل يومي مع شروق كل شمس من قوى القُبح والسوء، بائعي الهواء النقي ومستوردي الغازات السامّة أولئك الذين أسرفنا في الأمل في انقضاء دهرهم حتّى أوشك دهرنا على الانقضاء. أحاور نفسي وألومها دائماً، لماذا أنا هنا؟ ولماذا أمكث وسط كل هذا القدر من العداء والكراهية والمشاحنات الممتدة في المساحات الفارغة بين الإنسان والإنسان؟ تكاد هذه المساحات أن ينبعث منها ضوء أحمر من فرط احتقان الجميع تجاه الجميع، فهذا يكره ذلك وهذه تكره تلك، وهؤلاء يريدون الموت لهؤلاء، ومن المؤكد أنني أنا أيضاً محسوب على بعض ال"هؤلاء" الذين يتمنّى لهم آخر الموت ويتمنّون له الفناء اللانهائي. لماذا أعيش هذه الصفحة من التاريخ؟ وهل كانت الصفحات السابقة كما نراها في الأفلام والمسلسلات وصفحات الكتب، أم أنها كانت كالتي نعيشها الآن وقد زيّف تجار الرائحة الكريهةشكلها ولونها ومواطن جمالها؟. "الأفلام والمسلسلات وصفحات الكتب"، تأسرني هذه الجملة بينما أكتبها وأشعر بالحنين إلى ما لم أعشه خلال سنوات عمري القليلة. أشعر وكأن أحدهم يجذب بساطاً من أسفل أقدامي بينما تتمسّك أقدامي بالأرض، الأرض التي يريدون تعريتها من البساط وأقدامي ليعرضوها عارية لمشتريها الجديد، ما أقبح ذلك التاريخ الذي يدوّنونه! الرائحة تزكم أنفي وتكاد تقتلني، فهل قتلت أحداً من قبلي؟ تخيّلت للحظة أنه وبتعدد أسباب الوفاة إلا أن المحصّلة النهائية لها جميعاً هي تلك الرائحة، واستنتجت استناداً على هذا التخيّل أن تلك الرائحة هي الموت نفسه، وها أنا أستنشقه، وها هو يحيط بي من كافّة الجهات، فهل يشعر به أحدٌ غيري؟ أريد أن أسأل المارّة الذين يستنشقون معي ذات الهواء إذا ما كانت الرائحة نفسها تصل إلى أنوفهم أم أنها أتت لي وحدي، رائحة الموت؟ موتي أم موت التاريخ؟ موت الفن أم الجمال؟ موت الثورة؟ ثورة؟! قلبي معك أيها التاريخ، فهل ستحتفظ به أم سيمحيه تجّار الرائحة الكريهة كما نعاصر محوهم لتفاصيل أكبر من ذلك القلب المخبول؟ قال نجيب محفوظ قديماً أن التاريخ يحزن لتحوّله إلى قمامة، فهل سيسقطون الجنسية عنه أم سيكتفون بأنه استنشق تلك الرائحة وفارق الحياة بها؟ أم أنهم سيبيعون اسمه وأدبه كما باعوا من قبله لمن سيدفع أكثر؟ لا تحزن أيها التاريخ، فجميعنا قد تحوّل إلى قمامة، وها هي رائحتنا تملأ الأنوف والصدور، وستتأكد بنفسك حينما ترى نظرة الامتعاض على وجوه الجميع تحت تلك الشمس الصيفية الحارقة القاسية كقلب من جذب البساط من فوق الأرض.