أن تُعرَّى امرأة، عجوز، وفي الصعيد، وتوشك أن تُسحل ويُفتك بها، فهذا يشير بوضوح إلى ما وصلنا إليه من انحطاط غير مسبوق في سلوكياتنا ومنظومة قيمنا وتهافت سلطات الدولة القانونية والتشريعية وغيرها. لم تكن هذه الحادثة، في بُعدها الطائفي، هي الأولى ولن تكون الأخيرة إذا تعاملنا معها كما تعاملنا مع سوابقها، أي بمحاولة «لمّ الموضوع» والمصالحة والاعتذار أو حتى معاقبة «كبش فداء» خارج سياق القانون. ما الحل إذن، وكيف نضمن عدم تكرار مثل هذه الحوادث الفاضحة في بلادنا؟ الحل ميسور وسهل جداً، شرط توافر الإرادة، وهو تطبيق القانون على مستويين: الأول، أو القريب، هو محاسبة المخطئ وفقاً للقانون وإظهار قوة الدولة في المكان المناسب كي لا تتعرَّض للهزؤ والسخرية كأن ينادي بعضنا باعتبار المعتدين متظاهرين ضد بيع الجزيرتين. الثاني، وهو الأبعد، هو تأكيد معنى دولة القانون المدنية التي لا تفرِّق بين أحد من مواطنيها الذين يقفون أمامها سواسية لا فرق بين غني وفقير ولا وزير وغفير ولا متدين بدين ومتدين بدين آخر أو غير متدين على الإطلاق. لا أظنه يخفى على أحد ما تعانيه بلادنا من انحطاط مخيف على مستويات عدة، أولها وأهمها، من وجهة نظري، تآكل فكرة دولة القانون، ثم يأتي بعد ذلك ما شئت من انهيار في منظومة القيم وسلوكيات المواطنين تجاه بلدهم أو نحو بعضهم البعض. كلنا نشكو من انهيار قيمنا وأخلاقنا وتصرفاتنا في الشارع والفضاء العام وكأن كلمة «احترام» صارت كلمة قبيحة يفر منها الناس. الشخص الذي يلقي القمامة في الشارع هو الذي يؤذي غيره بالتدخين في الأماكن العامة ويتحرش بالنساء ويفتري على الأضعف إن وجد لذلك فرصة دون رقيب أو محاسب، بل قد يتبجح بذلك مع وجود الرقابة والحساب، وقد ترى أغلبهم يصرخون في السائق ليخفض صوت الأغنية وقت الأذان وقد تجد منهم من يحرصون على ارتياد الكنيسة باستمرار. ولا نريد أن نشرع في تقصِّي أسباب ذلك، فهي كثيرة ومتشعبة ومتشابكة ومعقدة. وقد يبرز ها هنا سؤال مهم: إن أردنا إصلاحاً فمن أين نبدأ، أمن القاعدة بنشر الوعي بين عموم المواطنين ونعتمد على نضجهم واحترامهم للقانون، أم من الأعلى أي بفرض احترام القانون ومدنية الدولة من قبَل السلطة العليا تشريعية وقضائية وتنفيذية؟ لا شك أن السياقين متقاطعان، فرغم أننا نزعم أننا نعيش في دولة مؤسسات ودولة قانون فإن ثمة تداخلاً بين سلطات الدولة الثلاث يحتاج إلى مراجعة وتصحيح. والمشرِّع والقاضي ومنفِّذ القانون هو في النهاية ابن هذا المجتمع وثقافته وأعرافه وتقاليده، يتأثر بكل ذلك ويتعاطف مع الجانب الذي يتلاءم وثقافته.. والأمثلة كثيرة. نحن نحتاج، وبشكل عاجل، إلى: ردع المخطئ ومعاقبته دون تجاوز القانون ترسيخاً لقيمة العدالة واستحضار دولة القانون في الضمائر والأذهان بتطبيق القانون والعدالة على الجميع، فإن المواطن البسيط إذا ما رأى أصحاب الجاه والنفوذ يفلتون من تطبيق القانون فإنك لا تجرؤ على مطالبته باحترام القانون.. هذا فُجر. إعادة النظر في منظومتنا القيمية (ثقافياً واجتماعياً وتشريعياً) من أجل صياغة عقد اجتماعي جديد يراعي قيمة الإنسان الفرد في ذاته وينتبه للمتغيرات والتطورات في العالم الذي نحن جزء منه. التركيز على التنمية الاقتصادية منفردة، أي دون محاربة الفساد وترسيخ العدالة والديمقراطية والإصلاح الثقافي والاجتماعي واحترام المواطن صاحب الحق في هذه التنمية، سيأتي بنتائج عكسية لأن مردود هذه التنمية سيأكله الفساد ولن ينعم به سائر المواطنين. الكلام على إصلاح الخطاب الديني لا بأس به، لكنه غير كافٍ ولن يأتي وحده بنتيجة مرجوَّة، بل قد تحدث له انتكاسات خطيرة. لا حلَّ إلا بفصل الفضاء الديني عن الفضاء السياسي والاجتماعي العام كي يُبنى عقد اجتماعي على أسس عقلية واضحة لا دخل للأهواء والتعصبات الدينية فيها. إذا روعيت هذه المبادئ فقد نسمح لأنفسنا بأن نحلم بوضع أقدامنا على بداية طريق التقدم والنهوض. وعندها قد نسترد إنسانيتنا وبلادنا وثقافتنا الضاربة في القِدم والعراقة. وأظنه من البديهي أن شيئاً من ذلك لن يحدث بعيداً عن الديمقراطية وتداول السلطة واحترام الحريات وإفساح المجال لعمل حزبي جاد يتمتع بالاستقلال والجدية والمنافسة. وأخيراً.. لكل سيدة تعرضت للتحرش أو الإهانة في بلادنا.. ولكل مواطن أو ضيف مستضعَف تعرَّض للظلم والعدوان.. لا أملك إلا أن أتقدم لكم بخالص الأسف وعميق الاعتذار علَّكم تدركون أن هناك من يتعاطف معكم ويتمنى بل ويسعى لتغيير الأحوال كي لا يُظلم في هذا البلد إنسان.