تناقلت أجهزة الاعلام تصريحات لدكتور طب نفسي معروف، جاء فيها أن إعطاء الديمقراطية والحريّة لجاهل مثل إعطاء السلاح لشخص مجنون. وبغض النظر عن دوافع الرجل، فإن هذه التصريحات لا تصب إلا لمصلحة استمرار سياسات الاقصاء والقمع ومن ثم ترسيخ حالة عدم الاستقرار. فيما يلي بعض الملاحظات ذات الصلة: أولا: الإستبداد وتجهيل الناس توأمان، فما من مستبد إلا ويسعى إلى تجهيل الناس لأن إرتفاع وعي الناس يدفعهم دوما للمطالبة بحقوقهم والعمل على انتزاعها بكافة الطرق بما في ذلك العصيان المدني والثورة. ولا يوجد نظام مستبد واحد كان هدفه رفع وعي الناس، فالتجهيل وتسطيح العقول مصلحة من مصالح الطغاة. مصر تكافح الأمية وتعلن استراتيجيات لتطوير التعليم منذ 1952 لكن النتيجة كانت إرتفاع معدلات الأمية وتدهور حالة التعليم والمعلمين والجامعات وأساتذة الجامعات على النحو الذي صار معروفا ويمثل عارا علينا جميعا. وفي حالات محدودة للغاية حقق الطغاة بعض التقدم لكن هذا التقدم كان ضمن رؤية وطنية حقيقية إستندت إلى دراسات علمية واستوعبت كافة فئات المجتمع وأولت الإنسان أولوية قصوى، والأهم أن هذا التقدم استتبعه إطلاق الحريات وقيام الديمقراطية أيضا. إن الدفاع عن الحرية وتعزيزها من مهام العقول الحرة من مفكرين وعلماء وقادة الرأي ولم تكن يوما من مهام الطغاة أو من يعتقدون أن الطغاة هم الحل. ثانيا: الحرية ليست مطلقة في أي مكان في العالم، وإنما لها ضوابط في كل دول العالم الحر. الطغاة دوما يتحدثون عن مخاطر الحرية ويتجاهلون النقاش حول الضوابط التي تحيط دوما بالحرية. وأهم هذه الضوابط وجود نظام قضائي مستقل وفعال وغير مسيطر عليه من الحكام أو يقوم على الامتيازات أو الاستثناءات لفئات محددة. بجانب وجود جهاز شرطة محترف لا يخترق القانون ولا يسئ إستخدام القوة، ويقدم القدوة في احترام القانون والسهر على حماية أمن وحرية المواطنين. هذا ناهيك عن الحدود التي يضعها الدين القائم في كل مجتمع وقيم المجتمع وعاداته والأخلاق والآداب العامة. ثالثا: لا تعارض بين الحرية والأمن والإستقرار. الطغاة فقط يخلقون هذا التعارض كمبرر لإستمرارهم في الحكم وإستمرار إمتيازاتهم. والدول الحرة اليوم هي أكثر الدول قدرة على توفير الأمن والإستقرار لشعوبها، كما أن الجيوش تكون أقوى وأكثر مهنية وإحترافا في الدول التي تحترم القانون والحريات. وفي المقابل معظم الدول التي يحكمها الطغاة تعيش إستقرارا زائفا لبعض الوقت، فالإستمرار في قمع الشعوب وتخريب مؤسسات المجتمع نهايته دوما الحروب الأهلية أو الإحتلال الأجنبي أو الثورات، وهذه جميعا تعقبها فترات من عدم الإستقرار بحكم طبيعة التغيير ذاته. ومن الحقائق العلمية شبه الراسخة في علوم النظم السياسية المعاصرة أن لكل النظم السياسية أعمار كما كل الكائنات الحية، وأنه كلما زاد معدل العنف الذي يمارسه النظام كلما كانت الوسائل العنيفة هي الأكثر إحتمالا لتغيير النظام. النظم المطلقة الفردية التي تعيش على العنف (كالتي كانت في أفريقيا والعالم العربي تحديدا) لا تنتهي أعمارها إلا بالطرق العنيفة، أي الإنهيار عن طريق عصيان مسلح، أو ثورة شعبية، أو غزو خارجي أو إنقلاب عسكري. وهذه النظم تختلف عن بقية النظم المستبدة التي قد يصلح معها الإصلاح التدريجي كما حدث في كثير من الدول في أمريكا اللاتينية وآسيا وجنوب وشرق أوروبا. رابعا: لا يوجد شعوب حرة وأخرى تهوى العبودية، الطغاة هم من يضعون هذا التقسيم ويحاولون بكل الطرق ترسيخه في أذهان الناس عبر الإعلام والمثقفين التابعين لهم. وكل الشعوب الحرة الآن كانت منذ عقود قليلة تعيش في الإستبداد والتخلف، وتشرعن التمييز ضد المرأة حتى النصف الأول من القرن العشرين. والغالبية العظمى من الدول الحرة والديمقراطية لم تنتظر حتى يرتفع وعي شعوبها وتقيم الديمقراطية، وإنما المؤسسات الديمقراطية الوليدة هي التي قدمت الأطر لحماية الحريات وتعزيز المؤسسات الديمقراطية ذاتها وإتاحة الفرصة أمام المجتمع للتقدم والنهوض. الحرية طبيعة بشرية، فالناس خلقوا أحرارا، والأديان والأخلاق وكافة القيم تقدم الضوابط والآليات لتنظيم هذه الحرية عبر العصور. وما ظهرت العبودية وقمع الشعوب إلا بعد أن إستبد الحكام بالسلطة بحكم ما توفر لهم من أدوات عنف أو مصادر قوة. وتاريخ البشرية هو تاريخ الصراع بين الحرية والإستبداد، بين العدل والظلم، بين العقول التي تسهم في تحرير العقول وتمكين الإنسان والمجتمع وبين من ارتضوا لأنفسهم تبرير القمع والظلم. خامسا: الرواية التي تقوم على لوم الشعوب (الضحية) وعدم لوم الحكام (الجناة) لن تساعد على الحل كما يتصور البعض، بل على العكس هي تستخدم كتبرير لبقاء وإستمرار الطغاة. ولقد جربت شعوبنا الحكم المطلق على أمل تحقيق الأمن، والتنمية، ورفع الوعي، لكن النتيجة أن تَوَسَعَ الإحتلال الصهيوني لخمس دول عربية وصار في معظم الدول العربية قواعد عسكرية غربية، كما لم تتحقق أي برامج تنموية حقيقية وزادت الهوة بين الفقراء والأثرياء وصار الفساد نظاما راسخا وسكن الملايين المقابر وعشش الصفيح. أما الثقافة والوعي وأبجديات هويتنا الهوية العربية الإسلامية ولغتنا العربية فقد دفنها الطغاة وهم يتسابقون نحو التغريب بلا أدنى قدر من الوعي والمسؤولية. سادسا: الديمقراطية لا تعني الانتخابات فقط، فهي نظام سياسي له أركان ولا يقوم إلا ضمن منظومة دستورية وقانونية ومؤسسية لا تشخص السلطة فيه في حاكم واحد ولا تقوم فيه وصاية عسكرية ولا دينية ولا قضائية فوق سلطة الشعب التي تحدها فقط مرجعية النظام العليا من قيم ومبادئ يرتضيها الشعب ذاته، كما الحال في كل نظم الحكم عبر العصور. والنظام الديمقراطي لا يستورد كأجهزة الحاسوب، كما لا تتم عملية تأسيسه في يوم وليلة. إن تأسيس النظام الديمقراطي عملية ممتدة ولها مراحل متعددة، ولكل مرحلة متطلباتها ومهامها ومؤسساتها، ومصر لم تعرف هذه العملية التأسيسية بضماناتها ومتطلباتها لا في الفترة من 2011-2013 ولا بعد 2013. والديمقراطية ليست نهاية التاريخ، وهي مجرد نظام للحكم ثبت أنه أفضل من غيره وقابل للتعديل والتطوير كما تفعل كثير من الشعوب الآن. وبالتالي تبني النظام الديمقراطي يعني وضع إطار يضمن حد أدنى من الكرامة والحريّة والقانون، وذلك حتى يمكننا تطوير الديمقراطية ذاتها وتمكين المجتمع بمؤسساته وفئاته المختلفة. سابعا: عملية تحرر العرب وتأسيس نظم حكم عربية تحمي الحريات عملية صعبة وستمتد لفترة طويلة لسبب آخر هو أن هناك قوى في الداخل ودول خارجية تحارب كل من يعلن – مجرد الإعلان – عن رغبته في إقامة نظام يستند للقانون ويحمي الحريات ويستعيد الكرامة ويكافح الفساد ويحرر الأرض المغتصبة. الديمقراطية ليست مصلحة لا للفئات التي تربت على الإمتيازات والإستثناءات في الداخل ولا للدول التي تدعم حكوماتنا العربية المطلقة وتقدم لها المساعدات والأسلحة منذ الإستقلال.