(تمهيد) في المجتمعات المرتبكة التي تعاني من غيبوبة تاريخية، يتحول الحديث عن غياب الرؤية إلى سجال عقيم لا يفضي إلى شئ، وتؤول مهمة استبصار الواقع إلى جماعات من العميان المتناحرين دفاعا عن امتلاك كل منهم للحقيقة، ويصبح النظر إلى المستقبل مدخلا إلى طريق من اثنتين: العودة إلى كهوف الماضي باعتبارها حصن السكينة والأمان، أو التيه في فضاء السراب وخداع الآخر.. ومن هنا بالضبط تأتي أوجه التشابه القوية بين الظروف التي نعيشها الآن، وما عاشه أسلافنا قبل قرنين من الزمان.. نفس التحديات.. نفس البلاء، نفس الترتيبات.. نفس العماء، فهل يختلف المصير؟. تعالوا نقرأ ونتأمل.. (1) في ربيع 1789 كان عبد الرحمن الجبرتي يقطع الطريق من بولاق إلى الجامع الأزهر ليحضر الدرس في حلقة الشيخ مرتضى الزبيدي، وعقب الدرس انتحى الشيخ بتلميذه وفاتحه في أمر غير مسار حياته تماماً، حيث قال له: يا حبيبنا.. لعلك تعلم أن همنا لا يعدو خدمة العلم والعلماء، ولأن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، فقد رأيت أن تكون لي عوناً على تحقيق أمر ذي بال، وهو جمع الأخبار لإعداد تراجم الأعلام المعروفين في قرننا هذا… المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي (1756 – 1825) هكذا بدأت صلة الجبرتي بالتأريخ في نفس الفترة التي بدأت فيها نذر الثورة الفرنسية، فبعد أسابيع (يوليو 1789) كانت الجموع الثائرة تقتحم سجن الباستيل، مدفوعة بنفس الأسباب التي ذكرها الجبرتي تفصيلاً عن معاناة المصريين في الفترة نفسها: الأوضاع المالية المتردية للسلطة، التوسع في فرض الضرائب، انتشار القحط والأوبئة، الظلم والقهر المتواصل للفقراء في الوقت الذي يتمتع فيه بالامتيازات والثروات، المشايخ (رجال الإكليروس والكهنوت) والأمراء والتجار والأعيان (طبقة العسكر والنبلاء). نابليون في بداية حلم الامبراطورية (2) لم يكن الجبرتي، ولا أي مؤرخ عربي في ذلك الوقت، يستطيع الإلمام بالصورة الكاملة لما يحدث في المستويات العليا من السلطة، خاصة على صعيد الدول، وكان اهتمامه الأساسي يركز على سيرة الأشخاص، وليست الأحداث في حد ذاتها، فقد كانت التراجم هي المهمة التي عكف عليها الجبرتي الصغير مع أستاذه، الذي توفي فجأة قبل اكتمال جمع سيرة الأعلام المصريين والحجازيين الذين وضع الشيخ الزبيدي قائمة باسمائهم، وزوده بها، ولما فترت همته وترك المشروع جانبا، وانصرف لإدارة الأملاك التي ورثها عن والده، وصلته رسالة من مفتي دمشق الشيخ محمد خليل بن علي مراد الشهير بالشيخ المرادي، أثنى عليه وترحم على شيخه وقدم له هدية مودة، ثم طلب منه الأوراق التي جمعها هو الشيخ الزبيدي، لأنها كانت ضمن خطة كتاب يعده عن أعلام وأعيان القرن، تحمس الجبرتي واشترى الأوراق التي آلت إلى ورثة شيخه، وبدا في تنقيح وترتيب أوراقه، وإذا بخبر من الشام عن وفاة الشيخ خليل المرادي عام 1791، فأصيب بإحباط وأهمل الأوراق التي لديه، حتى دخل الفرنسيون مصر، فبدأ يرصد الوقائع والأحداث، وينفعل مع المواقف والأشخاص ويسجلها في دفاتر وأوراق كثيرة، لم يهتم بترتيبها، ولم ينسخها مجتمعة في كتاب إلا بعد خروج الفرنسيين. غلاف مذكرات البارون دي توت المهندس الحقيقي للحملة الفرنسية (3) العجيب أن فترة التحضير للغزو، ونشاط التجار والجواسيس والقناصل والمبعوثين الرسميين لم يلفت نظر أحد، فقد كانت مصر كلها منكفئة على ذاتها، تعاني من القحط والفقر والسلب والنهب والظلم، وتفتت المجتمع إلى طوائف متفرقة تأكل بعضها بعضاً، حتى حدث ذلك بشكل فعلي في مجاعة القحط التي غاب فيها فيضان النيل، مع توحش باشاوات السلطنة وأمراء المماليك في جباية الأموال بكل الطرق، وفي ذلك الوقت كانت الدنيا تتغير، أوروبا تخرج من العصور الوسطى بنظام جديد ضد سيطرة الكنيسة والإقطاعيين، وتؤسس لنظام جديد يقوم على التجارة والصناعة، حتى تحولت الامبراطورية العثمانية إلى "رجل عجوز" أيامه معدودة، وعلى الطامعين ترتيب امورهم للحصول على أكبر نصيب من تركته، وفي هذه الأثناء صعدت أسطورة "البارون توت" الضابط المجري الذي أصبح دبلوماسيا شهيرا عينته فرنسا قنصلا لها لدى الباب العالي، وقدم خدمات كثيرة لمساعدة العثمانيين في الحرب ضد الروس، وأسس امبراطورية تجارية مدت نشاطها إلى مصر باعتبارها ولاية عثمانية، وعبر تراكم الخبرات والعلاقات، نشأت في دماغ فرانسوا توت فكرة وراثة فرنسا لمصر، وسافر إلى القاهرة في عام 1777 لدراسة فكرته في الواقع قبل عرضها على الملك لويس السادس عشر. شارل تاليران – استكمل مهمة البارون دي توت لاحتلال مصر (4) خلال المهمة السرية التي قام بها "دي توت" أوصى عناصر الطابور الخامس المقيمين في مصر بتكوين علاقات مع عدد من الأعيان وحكام الأقاليم، والتعرف على طبيعة الفئات المتناحرة، وخريطة الولاء الموزعة بين العثمانيين والمماليك، والشخصيات المعارضة للسلطنة من ناحية والمعارضة للمماليك من ناحية ثانية، وكلف الفرنسيين المقيمين وفي مقدمتهم عائلة مجالون بمراقبة حركة الموانئ، والتوسع في التجارة لمعرفة الطرق، واهتم بالرحلات التجارية النهرية في النيل، وأنشطة التجارة، وعدد القوافل بين القاهرة والقسطنطينية، وحركة القراصنة في البحر المتوسط، وجمع كل ذلك في تقرير شامل نشر بعد ذلك ضمن وثائق الخارجية الفرنسية، كما نشر في مذكراته بعنوان "ذكريات بخصوص الأتراك والتتار" (LES MEMOIRES SUR LES TURCS ET LES TARTARES) لكن الثورة الفرنسية قامت في 1789، ومات البارون عام 1793، واشتعلت الصراعات طوال عقد كامل، كان خلالها نابليون قد تولى السلطة، وبدأ يحلم بتوسيع نفوذه وتكوين امبراطورية على حساب التخوم العثمانية البعيدة عن الباب العالي، وكان السياسي الداهية شارل تاليران، من أقرب وأهم العقول في بلاط نابليون، فاستكمل خطة البارون دي توت، وكلف البعثات الديبلوماسية والتجارية بتقارير تفصيلية عن أوضاع مصر من كافة النواحي، وشجع نابليون على اقتناص مصر ليؤسس لقاعدة امبراطوريته في الشرق. محمد حسنين هيكل (1923-2016) (5) المصادفات الطيبة أتاحت لي الإطلاع على صور لعدد من الوثائق التي تتضمن تقارير معلوماتية، وترتيبات لوجيستية، ورحلات وصفية تمهد لحملة نابليون وتتحدث ايضا عن مشاهد من الحياة والعلاقات في مصر.. كان ذلك خلال العام الماضي في مكتب الأستاذ هيكل، بعد أيام من نقاش دار بيننا عن هذه الفترة الحاسمة من تاريخ مصر، على خلفية مقالات كنت أنشرها في ذلك الوقت، وكانت الوثائق أوراق متفرقة عبارة عن صور ضوئية لوثائق كشفت عنها الخارجية الفرنسية مصنفة ومرقمة منها وثيقة تحمل رقم (B7 463/516) وتتضمن معلومات عن الإسكندرية وتقارير لجولات ميدانية وملاحظات من اصحابها، ووثيقة أخرى في الفئةBB2 تتضمن معلومات عن موانئ مصر وبعض التحصينات والتواجد العسكري، وهي تتعلق بالفترة القريبة جدا من الحملة الفرنسية على مصر، وهناك وثائق نادرة كان الأستاذ مغرما بما فيها لأنها تتضمن شهادات عفوية من ناس بسطاء، ونماذج من خطابات ورسائل كانت بحوزة جنود الحملة، وتقتضي الأمانة أن أنبه المؤرخين والباحثين المهتمين، ومراكز التوثيق التاريخي، أن الأستاذ حدثني تفصيلا عن كيفية حصوله على آلاف الوثائق الخاصة بالحملة الفرنسية، والجزء المهم منها عبارة عن وثائق جديدة تماما لم يطلع عليها أي باحث من قبل، وتختلف عن وثائق الخارجية التي سبقت الحملة، كما تختلف عن تقارير العلماء والفنانين الفرنسيين التي تم استخدام معظمها في موسوعة "وصف مصر" وفي مئات الكتب التي صدرت بعد ذلك مثل "مسافرون في مصر" لبول وجانيت ستاركي، و"حافة الامبراطورية" لمايا جاسانوف، و"نابليون في مصر"، وغيرها. وقد أكد لي الأستاذ هيكل (وهو يحفزني على ضرورة الإطلاع ودراسة هذه الوثائق) أن هناك نسخة ثالثة كاملة لدى الباحث الذي قام بمغامرة الكشف عن هذه الخبيئة الخطيرة، وسوف أكتب عن هذه القصة بالتفصيل فيما بعد، لأن هذه الوثائق جزء من تاريخ مصر، ولا يجب أن تستمر في الخفاء، وفي اللقاءات الأخيرة بيننا شجعني الأستاذ على ضرورة الحصول على "النسخة الثالثة" موضحاً صعوبة الحصول على النسخة التي بحوزته، وإن كان قد أكد لي أن نسخته لم تكن ضمن الوثائق والكتب التي اندثرت في جريمة حرق منزله الريفي ببرقاش. المصريون في حياتهم اليومية قبل قدوم الحملة الفرنسية (6) في هذه الفترة الانتقالية المزدحمة بالتحضيرات والترتيبات، كانت مصر في حال من التعميم والتسطيح الذي جعل البلاء هو العنوان العام بصرف النظر عن أي تفاصيل، فالفقر هو الفقر، والنهب هو النهب، والظلم هو الظلم، حتى أن الجبرتي في آخر عامين قبل قدوم الحملة الفرنسية، لم يجد ما يسجله غير بضعة سطور عامة عبر فيها فوق الأحداث وتفاصيلها، فقد قال بالنص: لم يقع فيهما من الحوادث التي تتشوف لها النفوس، أو تشتاق إليها الخواطر فتقيد في بطون الطروس، سوى ما تقدمت إليه الإشارة من أسباب نزول النوازل، وموجبات ترادف البلاء المتراسل، ووقوع الإنذارات الفلكية، والآيات المخوفة السماوية (…) فمن أعظم ذلك حصول الخسوف الكلي في منتصف شهر الحجة ختام سنة اثنتي عشرة، وحضور طائفة الفرنسيس إثر ذلك في أوائل السنة التالية، وهي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة".. وهكذا فوجئ المصريون بالعدو داخل الديار، والمربك أكثر أنه كان يتقرب منهم بحجة حمايتهم من العدو الذي يسكن الديار..! [email protected]