ليس للأمر ثالث، فإما أنك تؤمن بالثورة أو لا تؤمن بها .. إما أنك تقف في صفها وتناضل بقدر استطاعتك من أجل شعاراتها أو أنك تنكر وجودها، ومن ثم تعمل علي إجهاض بشائرها.. إما أنك مع الحقوق أو ضدها، مع الناس الغلابة في سعيهم نحو البحث عن حياة أفضل أو ضدهم… لا يهم الحجج التي تسوقها لتقنع نفسك أو المبررات التي تدفع بها في وجوهنا لترح ضميرك أو الفلسفات التي تستدعيها ليستكين وجدانك خلف حدائق الصمت المريح. لا ثالث بين الاثنين، فالثورة والثورة المضادة وجها لوجه.. رغم اختلاط الأوراق وبقاء جزء من الثورة المضادة في السلطة وتخفي الجزء الآخر في زي المعارضة الصورية الشكلية والمتملثة في الإخوان وأعوانهم، لكن هذا لا يعني ضياع الحالة الثورية بين طرفي الثورة المضادة، إنما يعني بكل تأكيد أن المشهد صارا مربكا بدرجة أكبر من ليلة 24 يناير 2011 .. وهو جزء من معادلة الثورات، تداخل قوي الفعل السياسي هروبا وولوجا تحت أو خارج مظلة الثورة بحسب مصالحهم الذاتية، فمنذ متي كانت الثورات نزهة في التاريخ؟! منذ متي كانت الثورات خطا مستقيما معتدلا واضح الرؤي؟! ونحن الآن نمر بالدرك الأسفل من الثورة، والدرج الأعلي من الثورة المضادة التي تتباهي بقدرتها علي حفظ التوازن لصالحها والاحتفاظ بالجميع في الخنادق الخلفية للمجتمع .. وهذا إقرار لا ننكره، بل نعترف به ونقره ونسعي كما سعينا من قبل إلى تغيير موازين المعادلة لصالح الثورة ورجالها وأهدافها ومبادئها. نسعي إلى حفظ بقاء الطاقة الثورية، لكننا لا نتجاوز الواقع والحقائق..فهذا زمن الثورة المضادة ولا ريب في ذلك.. أنظر حولك ستجدها في كل بقعة من بقاع الوطن، في القوانين والبرلمان والحكومة والتشريعات والهيمنة والإعلام والخطب الرنانة الفارغة وهستيريا المبايعة وفي التشوه السياسي الكاشف للجميع أمام الجميع، في فن التركيع والتجويع والاستسلام واليأس والإحباط… كل هذا وغيره الكثير من سمات الثورات المضادة التي استطاعت أن تفرض قانونها علي العقل الجمعي ..فأرداته عقلا يحيا حياة الوهم الملعون وينتظر جودو الذي لم يبلغنا صمويل بيكيت متي يأتي؟ من حق الثورة المضادة وأعوانها أن تمسك بالفرصة قدر ما تستطيع، من حقها أن تدير عجلة التاريخ ليعود إلى الوراء علي قدر ما تستطيع، من حقها أن تعتقل الجميع لكي يعيش الوطن، وطنهم هم الذي حددوا بمفردهم ملامحه العامة، من حقها أن تحدد خندق الخصوم والأعداء وتضع خطوطا حمراء علي كل شخص أو كل فكرة، من حقها الدمج بين التقدمي والإرهابي وقتما تشاء، ومن حقها الدمج بين المطالب المشروعة والنهب المشروع أيضا، من حقها السب والقذف بلا عقاب، من حقها السجن والسحل بلا عقاب، من حقها أن تجعل الشمس تشرق من الغرب، وأن تري الجمل يصعد النخل، وأن تحول الحرامي إلى نائب، والمهرب وزيرا، والجنرال فيلسوفا …فمن يملك يحكم، ومن يحكم يتحكم في منافذ الوعي ومداخل الوطنية وصكوك الغفران الثوري .. لكن ستبقي أن الثورة هي الطرف الآخر، مهما تأخر آذانها ومهما خفت صوتها، ومهما اكتوينا بنارها، ستبقي قضية شعب، ومهمة أجيال وفريضة غائبة، وشمس تتأهب من خلف سحب الزيف، ستبقي ثورتنا ما بقي فينا إيمان بقادم أغلي من هذه الأيام الرخيصة التي إنعدم فيها كل معني جميل، ستبقي الثورة ما بقيت الدماء في العروق والنماء في الزرع، والوفاء في القلوب المخلصة لقضيتها..ستبقي الثورة وطن غائب لشعب صابر..ستبقي الثورة رغم أنف الثورة المضادة وأعوانها.