يجعل كلامنا خفيف عليكم، لا بنحكي عن عنترة، ولا بن ذي يزن، ولا الهلايلة، ولا حتى بيبرس، ولا الأمير البهلوان.. كان يا «مكان»، من غير ربابة ولا طبلة ولا مزمار، نحفظ كافة الأشعار، بألف حكاية وحكاية، كان يا «مكان». ربما لا يعرف المارون بشارع السيوفية في حي السيدة عائشة بالقاهرة، والشبيه بالحارات، كان أحد أهم شوارع القاهرة المملوكية أو مدينة القطائع، في العام 753ه/1352 ميلادي، حيث بنى الأمير سيف الدين عبد الله طاز بن قطغاج قصره الشهير. المكائد والمؤامرات من أبرز سمات العصر المملوكي التاريخية، وقد حيكت بمهارة في أروقة وساحات قصور الأمراء الطامحين للسلطة أمثال الأمير طاز، ذو القسمات الملكية والبطولية التي تغنى بها العرب والمسلمين، كالشجاعة والحشمة والوسامة وغيرها، ولعل القصر شاهدا تاريخيا على طموح الرجل، الذي اختار شارعًا بتلك الأهمية آنذاك، وتكلف بناؤه هدم عدد من منازل أهالي المحروسة البسطاء، ليظهر الوجه الغاشم لأمراء تلك الحقبة، ولم يشرف على عمارة القصر شخصًا عاديًا، بل كان أحد الأمراء ويدعى «منجك»، وفي سابقة تاريخية افتتحه السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون بنفسه. هكذا كانت طبيعة العلاقة بين الأمير والسلطان صغير السن، والتي تعمقت بعد أن أصبح الأول صهرًا للثاني، بعدما تزوج شقيقة الأخير «خوند زهرة بنت قلاوون»، وكان السلطان الناصر محمد بن قلاوون، قد منحه قبيل وفاته رتبة عسكرية «أمير ألف» أي مسؤول عن ألف مملوك، يعلمهم فنون السلاح والقتال ويرأسهم في الجيش والمعارك، وكان ساقي السلطان الكبير، وساقي السلطان، من يتذوق الشراب احترازًا من دس أحدهم السم للسلطان، تلك العلاقة ساهمت في بزوغ نجم «طاز» كأحد رجال الحل والعقد في الدولة، حتى أنه وبعد سنوات نجح في الاستئثار بثقة السلطان حسن، الذي نصبه واليًا على حلب الشامية. لم يقف طموح السياسي المحنك عند ولاية حلب، بل حاول أن يستأثر بالحكم هناك ودبر حركة تمرد، ليخلع السلطان حسن، ويستغل صغر سنه ليتولى حكم البلاد، ولكن المحاولة باءت بالفشل، فتدارك السلطان الصغير خطر طاز على حكمه، وأرسل له الأمير المارداني وصرغتمش، وأمر بتكحيل عينيه ليصبح أعمى، ثم وضعه في سجن الكرك في بلاد الشام، ومنه انتقل إلى سجن الإسكندرية، ولكن السلطان سمح له في وقت لاحق بقضاء باقي حياته في الأراضي المقدسة، حتى توفى عام 1361ميلادية. مرت العصور المختلفة على القصر، ليضيف سمة جديدة وطابعًا جديدا من كل عصر، حيث سكنه في العصر العثماني «علي آغا خازندار دار السعادة»، الذي أجرى إضافات في واجهة المقعد وسقفه، وأنشأ الحمامات السفلية الملحقة بالسلاملك والخاصة بالرجال، وكذلك بنى مستوى ثاني أعلى السلاملك والخاص بسكن الطائفة الصوفية، كما جدد الواجهة الرئيسية، وأضاف الباب السر. ومع عصر الأسرة العلوية، تحول القصر إلى مدرسة حربية ومخزنًا للسلاح والمهمات، ثم مدرسة لتعليم البنات التطريز والخياطة، وأشرف علي باشا مبارك، وزير الأوقاف والمدارس حينها، على تحويله إلى مدرسة، وتقسم الفناء الأوسط المكشوف إلى ثلاث حجرات قامت بتغطية أول مثال لظهور بركة المياه المستطيلة في مصر في القرن ال14، مثل التي ظهرت في القصر الفاطمي الشرقي الكبير. يذكر أن اسم «طاز» ذو أصل فارسي «تاز» ويعني الهجوم، ثم تحور إلى الإسم المعروف، والذي أطلق على مقدمة الجيش المهاجمة، وهي فرقة الطازية.