ثنائية العلم والإيمان واحدة من القضايا التي تلعب دورًا رئيسيًا في تطور أي مجتمع، وقد خاضت المجتمعات الأوروبية حروبًا طويلة في القرون الوسطى من أجل تجاوز هذا الصراع بين العلم والإيمان، الذي انتهى بانتصار العلم والمعرفة كمرجعية أولى للمجتمع، مع بقاء الدين كمرجعية فردية للأشخاص بحيث تكفل الدولة حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر لكل مواطنيها، ومن خلال هذه الصيغة من التعايش بين العلم والإيمان استطاعت المجتمعات الأوروبية تحقيق التطور والتقدم. على الجانب الآخر لم ترواح المجتمعات العربية مكانها منذ قرون، فثنائية العلم والإيمان ما تزال مطروحة على مجتمعاتنا العربية بقوة، وفي مصر تحديدًا شهد هذا الصراع سجالًا كبيرًا خلال القرن الماضي، ففي بداية القرن العشرين شهد المجتمع المصري حالة من الانتعاش والحراك الاجتماعي والديني والثقافي بشرت بقرب حسم الصراع، والوصول لصيغة تعايش، كما حدث في أوربا، حيث انتصر العلم كمرجعية مجتمعية، وبقي الدين كمرجعية فردية، لكن مع حدوث نكسة 1967 ، حدث تراجع كبير في مسيرة تطور المجتمع، ثم جاءت فترة حكم الرئيس "المؤمن" محمد أنور السادات ومن بعده المخلوع مبارك لنجد الدين يتم إقحامه في قضايا العلم بصورة فجة ومفجعة. ورغم المحاولات التي شهدها المجتمع المصري في الخمس سنوات الماضية منذ إندلاع ثورة 25 يناير، لاستعادة قيمة العلم والمعرفة لكن ما تزال سطوة رجال الدين المتحالفة مع السلطة الحاكمة تدفع في الاتجاه المقابل الذي يسعى لعرقلة أي تطور إجتماعي. والمدقق في الأمر سيكتشف أن قضية العلم والإيمان تتداخل فيها دوائر عديدة إقليمية ومحلية، لها مصالح كبيرة في إقحام الدين في كل أمور الحياة، بحيث تبقى لهم من خلال الدين اليد العليا التي تحرك المجتمع، ويظهر هذا بوضوح في الدعم الكبير الذي تقدمه المملكة العربية السعودية لكل من يتصدر المشهد العام، ويدعى أنه عالمًا ومفكرًا، ويتحدث عن كون الدين سبق العلوم البشرية جمعاء، وعن كون الدين هو المرجعية الأولى للمعرفة وللمجتمع. ومن يدقق أكثر سيكتشف أن صراع العلم والإيمان لم يقتصر فقط على الدول العربية بل امتد للعديد من الدول الإسلامية الأخرى وكان سببا رئيسيا في تراجع نهضة هذه المجتمعات وتدميرها، ويمكن تتبع ذلك من خلال كتاب" الإسلام والعلم .. الأصولية الدينية ومعركة العقلانية " تأليف برويز أمير علي بيود ، وترجمة محمود خيال، وقدمه عالم الفيزياء الباكستاني محمد عبدالسلام الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979، وقد صدرت حديثاً الترجمة العربية من الكتاب عن الهيئة العامة المصرية للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة. يتناول الكاتب وضع العلم في العالم الإسلامي والعربي في النصف الثاني من القرن العشرين، منطلقاً من الأحداث التي أعقبت الانقلاب العسكري للجنرال ضياء الحق علي في باكستان عام 1977، مدعوماً من التيار الأصولي آنذاك، وعقب هذا الانقلاب شهد المجتمع الباكستاني بروز نزعة دينية امتدت لكافة نواحي الحياة، ومن ضمنها التعليم والبحث العلمي حيث تم إدخال العديد من التغييرات على المناهج التعليمية، كتهميش المواد المدنية العلوم والرياضيات والفلسفة لصالح المواد الشرعية، كما جعل حفظ أجزاء من القرآن شرط للتأهل الدراسي ومنح أفضلية الإلتحاق بالجامعات لحافظي القرآن وغلبة نظام الاستظهار القائم على الحفظ، بالإضافة لفرض الحجاب على كافة الطالبات، وجعل المعرفة الدينية أحد عناصر اختيار المعلمين بالمدارس، ومحاربة أي نشاط ثقافي في الأوساط الطلابية، ومحاولة أسلمة العلم بالسعى وراء خلق علم إسلامي يقوم على الاستنباط من التراث الإسلامي؛ لإثبات ماهو معلوم من النظريات العلمية الحديثة ونسبها له، عن طريق اقامة مؤتمرات، ونشر دوريات تضطلع بهذا الأمر. يحتوي الكتاب على اثنى عشر فصلاً وملحق واحد بعنوان " يسمونه علمًا إسلاميًا"، وهو عبارة عن مقالة معدلة نُشرت في مجلة هيرالد عام 1988، يتحدث فيها الكاتب عن ملامح العلم الإسلامي وما أنتجه في البلاد الإسلامية من نظريات وأبحاث، ويعطى أمثلة عديدة توضح للقارىء كارثية سيطرة السلطة الدينية على العلم، من أبرز هذه الأمثلة النظرية التي تقدم بها الدكتور إرشاد على بيج في الندوة الدولية عن القرآن والعلم عام 1986 التي تشير لقدرته على قياس درجة "النفاق" في المجتمع عن طريق استخدام معادلة رياضية توصل لها، والأبحاث المقدمة في مؤتمر المعجزات العلمية في القرآن عام 1987 والتي تذهب لإمكانية القضاء على الجن أو الأنس في سفن الفضاء لمن يحاول الوصول لمناطق محرمة في السماء عن طريق قذائف نحاسية فارغة من المتفجرات ، وإمكانية الحصول على الطاقة عن طريق تسخير الجن والتركيب الكيميائي للجن وعلاقته بسورة النحل في القرآن الكريم ووصف السحاب المتراكم في القرآن، والكشف عن بعض الظواهر الحديثة للمحيطات في القرآن الكريم . بالإضافة إلى محاولة قلب الحقائق والمسلمات العلمية وإرجاع تفسير الأمور على أسس دينية دون الاستناد إلى أي سند علمي، وذلك مثل ما ذهب إليه الدكتور بروهي من أن النظرية النسبية لأينشتاين نظرية مكروهة ومتعارضة مع الإسلام حيث يقول "في اعتقادي الراسخ، أن رأي أينشتاين فيما يتعلق بحركة الجزئيات، أو المكونات الأساسية للمادة، رأي خاطئ من الناحية الإسلامية.." كما توصل محمد مطلب دكتور الجيولوجيا بجامعة الأزهر إلى أن للجبال جذور في الأرض كالأوتاد التي تشد الخيام، وبدونها فإن دوران الأرض سيتسبب في بعثرة كبيرة لكل شئ ووقوع كارثة محققة، يعلق الكاتب على أن الدكتور مطلب قد تناسى وجود ظاهرة الجاذبية الأرضية التي توصل لها نيوتن، والتي لها قوة تفوق قوة الطرد المركزي الناتجة من دوران الأرض حول مركزها، كما تم منع تدريس نظرية دارون من مناهج الأحياء في باكستان لتعارضها مع الإسلام. يطرح الكاتب عبر الثلاث فصول الأخيرة من الكتاب سؤالين مركزيين أولهما: هل الإسلام والعلم متوافقان؟ ويرى الكاتب أن أساس الجدل في هذه النقطة منصب حول نقطة مدنية (علمانية ) العلم، وهل علمانيته تلغي عنصر المقدس الغيبي؟ ، كما يرى أن هذا الجدل من الصعب الوصول إلى حله بشكل يرضي جميع الأطراف. السؤال الثاني الذي يناقشه الكاتب يتعلق بمدى إمكانية تواجد علم إسلامي، ويرى الكاتب أن الإجابة على هذا التساؤل شديدة البساطة، وهي لا وذلك لعدة أسباب منها أن العلم الحديث يتميز بأنه محدد المعالم ملموس واستطاع إنتاج آلات وإلكترونيات ساهمت في تغيير شكل الحياة ،على العكس من كافة الجهود التي بذلت لخلق علم إسلامي، فلم تستطع انتاج آلة واحدة أو الوصول إلى اكتشاف حقيقة فيزيائية أو إنتاج مادة كيميائية واحدة، بالإضافة إلى أن الأخلاق والقواعد الدينية لا تستطيع أن تثمر في بناء علم من لا شئ . يخلص الكاتب في نهاية بحثه إلى أن العلم يجب أن يحافظ على استقلاليته، ولا يتبع أي معتقد ديني أو سياسي، فالعلم منجز إنساني عام تتشارك البشرية جميعاً في إنتاجه وتطويره. يذكر أن الكاتب برويز أمير على بيود عالم فيزياء ولد في باكستان عام 1950 ، عمل بالتدريس في جامعة القائد عزام بإسلام أباد ، وحصل على جائزة عبد السلام في الرياضيات عام 1984، وجائزة فايز أحمد فايز عام 1990 لإسهاماته في التعليم بباكستان، كما عمل كأستاذ زائر في جامعة كارنيجي ميلون.