كنت طفلاً حينما شاهدت لأول مرّة الفيلم السينمائي "سمك لبن تمر هندي" للمخرج العبقري الراحل "رأفت الميهي"، الفيلم كان يقدّم الجزء الثاني من فيلمه "الأفوكاتو" الذي يجسّد فيه عادل إمام شخصية المحامي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، ومن أين يأتي المال سواء بالابتزاز أو باستغلال ثغرات القانون لتبرئة مجرم، أو حتى بافتعال المعارضة السياسية أحياناً لتعميم الجريمة وتغطيتها بسياسات الدولة العليا، وفي الحالة الأخيرة تلك ألقى المحامي بنفسه في السجن في مقابل براءة موكّله والحصول على أتعاب المحاماة، وهنا كان المحامي "حسن سبانخ" يقضي فترة عقوبته القصيرة في زنزانته تحت خدمة الشاويش والمساجين. وفي الجزء الثاني كانت عائلة "سبانخ" تعاني من الشقاء والإفلاس بعد هروبه إلى خارج البلاد عقب هروبه من السجن، وكان يجسد دور شقيقه الفنان "محمود عبد العزيز"، الطبيب البيطري الذي لا يجد قوت يومه، ولا تكلفة زواجه من حبيبته التي جسدت دورها الراحلة المتمكّنة جدًا "معالي زايد". للوهلة الأولى لم أفهم تفاصيل الفيلم؛ نظراً لصغر سنّي، لكنني كنت أضحك كثيرًا من شخصيّة الضابط "ملاك" التي جسدها الفنان الراحل "يوسف داود"، ومع الوقت والتركيز في أحداث الفيلم وتراكم معرفتي بدأت في الضحك أكثر وأكثر على حالة الهيستيريا الجماعية بين شخصيات القصة وتفاعلها الهيستيري فيما بينها، وخاصة حينما أخبروا المتهمين بعد القبض عليهما دون تهمة تذكر بأنهما قد ماتا، وجاء وقت نقلهما إلى المشرحة، بينما كان الرجل وحبيبته يصرخان بأنهما مازالا على قيد الحياة حتى استسلما للعبة الكبرى وشاركا فيها ليصاب الضابط "ملاك" بالجنون. في صباح أحد الأيام وجدت دعوات عامة تشوبها شائبة اللوم والهجوم لتخلّي الشباب ذوي القدرات والمعرفة عن المشاركة في بناء الوطن، استفهمت وقتها عن سبب تلك الموجة العارمة لأجد أن انتخابات البرلمان كانت قد بدأت وأن بناء الوطن لن يأتي إلا من خلال صناديق الاقتراع، ولكن السؤال المُلح هنا كان عن ماهية القدرات المطلوبة من الشباب لوضع ورقة داخل صندوق ليعلن بعدها بساعات فوز فلّان بمقعد في البرلمان، وهنا تذكرت كيف للعبث أن يصبح واقعًا، وكيف لفيلم سينمائي أن يستطيع استخلاص الأفكار لتقديمها في صورة كاريكاتيرية هزليّة. فالشباب الآن مخطئون؛ لأنهم لم يقدّموا الإرادة والبطولة في النزول لصناديق الاقتراع، وليس هناك من أخطأ حينما تمّت دعوة خرّيجي الجامعات للعمل كسائقي "توك توك"، الشباب أخطأ حينما لم يتحرك ليقف في صفوف اللجان، وليس هناك من أخطأ حينما تم اصطياد كُل موهبة قدّمت نفسها ووصمها بأحط التهم والألفاظ. في صباح يوم آخر استيقظت لأجد على صفحات التواصل الاجتماعي من يسبّون ويلعنون في سيرة حملة الماجيستير، فتعجّبت وبحثت عن السبب لأجد أن هناك مظاهرة سلميّة ينظّمها بعض من حملة الماجيستير والدكتوراه، يطالبون الدولة بتوفير وظائف لهم، فعاد مرّة أخرى إلى رأسي ذلك الفيلم "سمك لبن تمرهندي"، لأتذكّر أنهم أرادوا لبطل الفيلم أن يعترف بأنه ميّت وأن يدلي بشهادته في التحقيق في ذات الوقت. ربما كنت نائمًا وأحلم حينما رأيت أحدهم يتهم الشباب بالسلبيّة وعدم الرغبة في العمل؛ لأنني لو لم أكن أحلم وقتها سنكون أمام شخص آخر يسب أصحاب العلم والمعرفة؛ لأنهم أرادوا أن يعملوا داخل الوطن بشهاداتهم المرموقة وعلمهم الواسع القابل لمزيد من الاتساع بالممارسة والتجربة. ربما كنّا جميعاً في حلم جماعيّ حينما رأينا من ينادي الشباب للخروج والتصويت كفعل إيجابي، بينما طالبهم بالمكوث والبطالة وادخّار العلم داخل رؤوسهم وعدم إدخاله في حيّز العمل كفعل إيجابي أيضاً، ربما كنا نحلم حينما قررنا حمل الشهادات وتحصيل العلم ولم نجد لنا مكاناً داخل منظومة الوساطة والقرابة، تلك المنظومة التي عيّنت لها متحدّثين رسميين على الشاشات وصحفات الجرائد تطلب من الشباب أن يكون إيجابيًا، ويمكث في بيته بدلاً من طلب العمل، بينما يجلس أمام إحدى الشاشات شخص يمتلك الجرأة للخروج على المواطنين ليعرض لهم مقطعاً من مقاطع "الفيديو جيم" على اعتبار أنها إحدى الغارات الروسيّة على تنظيم داعش، ثم في اليوم التالي يتّهم من كشفوا الأمر بأنهم عملاء للخارج، وفي شأن الإعلام لنا حديث آخر.