لعالم الاجتماع العربى الأشهر د.على الوردى كتاب يحمل عنوان: مهزلة العقل البشرى، يجوب بنا عبره في رحلة شيقة، عمادها التفكر والتأمل بالموروث والوافد على عقولنا من أفكار وتصورات، وسمات هذا العقل الحافل بالمتناقضات التى تبقى بشرية لكنه فى هذا الكتاب خرج ببعض الأفكار التى قد تضىء لنا فى مصر شيئا من حقيقة مهزلة العقل المصرى، خصوصا فيما يتعلق بقضية التغيير فى بلادنا. الإمام علي "رضى الله عنه" كان يقول: من ملك إستأثر، وهذه آفة كل نظام حاكم؛ لذا يعتقد الوردى أنه لابد فى كل حضارة من وجود أناس غير راضين، وهؤلاء هم وقود الحضارة إذ يدفعونها دفعا للأمام على توالى الأجيال على حد تعبيره. فى مصر نعتبر هؤلاء خطرا على الاستقرار، وعلى وحدة الدولة، وعلى النعيم الذى تعيشه بلادنا، وهذا من مهازل العقل المصري. يقول محمد جابر عبدالعال فى كتابه حركات الشيعة المتطرفين "إن الأزمات الاقتصادية إذا طال أمدها تضعف العقول وتجعلها فريسة للمذاهب الهدامة، التى تبرق للناس مبشرة بحياة سعيدة، فهل التطرف هو ابن الفقر؟، فعلا أذهلتنى فكرة أن الأزمات الإقتصادية إذا طالت تضعف سلطان العقل، هل نعانى جميعا أزمة ضعف عقلى؟ هل تواطأ حكامنا على تأبيد أزماتنا الاقتصادية حتى أنتجت ضعفا عقليا يغرى وييسر السيطرة على مقدرات الشعب، تأملوا كيف تصاعدت موجات الحركات الهدامة فى بلادنا فى رعاية الفقر والتراجع الإقتصادى. يقول عبد العال أن الظلم الشديد قد يفتح الباب للأوهام عند المظلوم، هل يشرح ذلك صلة فصائل التيار الإسلامى أو حتى غيرهم بالأوهام؟ أنا فقط أسأل لكن من المهم جدا دراسة الظروف النفسية والاجتماعية التى تحيط بظاهرة ما، دون التسرع فى إطلاق الأحكام، كثير مما نعيشه فى حياتنا من ظواهر نُسرع فى إطلاق الأحكام عليه دون روية من دراسة أو استصحاب ما قاله علماء النفس والاجتماع. كثيرا من نطرح حقائق نظنها كافية لدفعنا للحركة والفعل، ونكتب روشتات للعلاج لكن الأمر ينتهى دون أى نتائج إيجابية فنسأل: لماذا؟ فيجيبنا الوردي بأن "الناس يحبون الحق بأقوالهم ويكرهونه بأعمالهم". كلنا يتغزل فى العمل الجماعى وضرورة الإنطلاق منه، لكننا نفشل فى بناء حزب واحد قوى، إلا إذا اعتمد على فكرة دينية أو عسكرية، الناس فى بلادنا لا يتوحدون إلا على الخوف من سلطة أرضية كانت أم سماوية، لكنهم لم يصلوا بعد إلى بذل الجهد من أجل الوصول إلى سلطة المشاركة فى إدارة بلادهم، هل يشرح الأمر ما يقوله الوردي أن نظام الإكثرية الذى تقوم عليه الديمقراطية الحديثة، لم يقم إلا بعد توافر شروط عديدة أهمها: انتشار التعليم وزيادة وعي الرأى العام، وتكوين الأحزاب الحديثة، وارتفاع شأن الصحافة، ولايزال هذا النظام مع ذلك يعتوره كثير من العيوب. حديث الوردي ينطلق من معايشته لأحوال العالم فى الخمسينات من القرن الماضى، فماذا كان سيقول عن واقعنا الآن؟ فى مواجهة الأحاديث المتكررة حول ضرورة وحدة المجتمع والاصطفاف الذى تحول إلى كلمة سيئة السمعة، ينتقد الوردي فكرة الاتفاق الدائم الذى كثيرا ما يدعو لها كل نظام حاكم، يقول الوردى: إن الاتفاق يبعث التماسك فى المجتمع ولكنه يبعث فيه الجمود أيضا، فاتحاد الأفراد يجعل منهم قوة لا يستهان بها تجاه الجماعات الأخرى، وهو فى عين الوقت يجعلهم عاجزين عن التطور أو التكيف مع الظروف المستجدة، إن التماسك الإجتماعى والجمود توأمان يولدان معا، ومن النادر أن نجد مجتمعا متمسكا ومتطورا فى آن واحد.. إذا رأيت تنازعا بين جبهتين متضادتين فى مجتمع فاعلم أن هاتين الجبهتين له بمثابة القدمين اللتين يمشى بهما، إن الصفة الرئيسية التى تميز المدنية عن الحياة البدائية هى الإبداع، فالحياة البدائية يسودها التقليد بينما الإبداع يسود حياة المدنية كما يقول "توينبي". بالطبع لا يدعو "الوردي" إلى اعتماد الفوضى، ولكنه يذم الاستقرار الذي نتغزل فيه صباح مساء، هل يشير الوردي إلى ما جرى فى مسيرة بعض الشعوب الغربية، التى اعتمدت تجربتها الديمقراطية على حزبين أو جبهتين يتنافسان على تحقيق الرفاه لمجتمعهما، ربما، لكن ما ينبغى أن نتعلمه من كل ما قيل أن الحيوية نقيض الجمود الذى نسميه استقرارا، وأننا إذا كنا جادين فى الحصول على حياة كحياة البشر فعلينا أن نعلم كون الحقيقة بنت البحث والمناقشة، ونضع كل مشاكلنا على طاولة البحث ونتحرك لكن ليس فى المكان.