في الحقيقة أن الحديث عن آخر الزمان وربط الروايات والنبوءات بالأحداث ليس شيئًا جديدًا حدث في عهدنا الحالي فقط، بل هو ممتد عبر التاريخ، قبل الإسلام كان الناس يتحدثون عن (نبي آخر الزمان) واعتبروا ظهور النبي محمد علامة نهاية الزمان، وحينما نزلت آية "اقتربت الساعة وانشق القمر" بالتأكيد خفقت القلوب إحساسًا بنهاية الزمان، بل إن الأمر أقدم من ذلك حتى أن الله يقول في القرآن للنبي موسى "إن الساعة آتية أكاد أخفيها".. وفي أغلب الحضارات القديمة كان أمر نهاية الزمان شغلًا شاغلًا لعلماء الفلك والحسابات والميتافيزيقا، بل إن التاريخ يروي أن الكثير من المسلمين أثناء ما يعرف بالفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، كانوا يرون هذه الأمور هي ملاحم آخر الزمان، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر ومع بزوغ نجم محمد علي باشا وتغيير الوضع السياسي والجغرافي في الشرق الأوسط، لم يتوقف الحديث عن اقتراب نهاية الزمان وزاد الأمر قوة دخول القوى الاستعمارية للشرق الأوسط وتركيب الأحداث على الروايات والنبوءات، فكان الخديو توفيق هو أخنس مصر وأحمد عرابي هو صاحب مصر.. إلخ. صحيح في أيامنا هذه ومنذ تلاحق الأحداث في سوريا وتشابكها، كثر الحديث بشكل أكبر وأضخم، حيث إن أغلب نبوءات آخر الزمان تدور حول سوريا وما يحدث فيها، وأصبح كل فريق بما لديهم من روايات تعضد موقفهم فرحين، فكان استخدام الروايات ونبوءات آخر الزمان سلاحًا فعالًا خلال الخمس سنوات الماضية من جميع الأطراف المتنازعة، مسلمة كانت أو مسيحية أو يهودية أو حتى ملحدة من باب السخرية وإثبات ضعف الأديان.. ولكن أحدًا لم يسأل السؤال الجوهري "هل ينتهي الزمان؟" من المعروف أن الزمن مرتبط بالمادة التي متى وجدت وجب قطعًا أحاطتها بالزمان، والمكان وتلك بديهية لا تحتاج لبرهان، فالمادة "أيًّا كان نوعها أو شكلها" تحتاج بالضرورة لقالب مكاني وزماني.. لكن المادة لا تفنى! المادة لا تفنى بل تتجدد وتنتقل من حالة إلى حالة تتدمر أو تتكسر، فتتحول لشيء آخر تذوب أو تتبخر أو تتحلل، لكنها تظل مادة وبالتالي يظل الزمن، لكنه أيضًا يتبدل ويتحول.. هل كان خلق آدم بداية زمان أم نهاية زمان أم كلاهما معًا؟ هل هذا الخلق الذي وصفه الملائكة ب"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" كان يشهد نهاية الزمان والاستعداد لطور جديد وزمان جديد؟ هذه الرؤية المختلفة لمفهوم الزمان جوهرية وأساسية في التعامل مع الأحداث ونظرة الإنسان للعالم المحيط، فنهاية الزمان بالشكل الذي اعتدنا على تصوره تعني الفناء والنهاية والدمار والخراب، وهو ما يجعل المسلم ينظر للأمر كونه نهاية لا أكثر، بينما المنظور الآخر يجعل من المسلم شخصًا مؤمنًا بالتطور في الخلق والأطوار البشرية، فيعلم أن نهاية كل زمان يلحقها طورًا زمانيًّا أكثر رقيًّا وما نهاية زماننا إلَّا بداية لزمان جديد نحن أبطاله أيضًا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا الذين سيكونون ذلك الطور البشري الجديد.. أيًّا ما كان ما نعيشه اليوم هو علامات نهاية الزمان أم لا، فنهاية الطور حتمية عاجلة أم آجلة ودخول البشرية في طور جديد أيضًا حتمية عاجلًا أم آجلًا، وما على العاقل إلَّا أن يساهم قدر استطاعته في هذا السلم الحضاري الإنساني الذي ساهم فيه أشخاص ماتوا منذ آلاف السنين وحتى اليوم، وكل جهد قاموا به هو خطوة أدت بشكل مباشر أو غير مباشر لنقل البشرية للطور الجديد الذي تنتظره بفارغ الصبر، فما هذا الدمار وهذا الخراب الذي حدث عبر العصور الجيولوجية وعبر ملايين السنوات مرات ومرات سوى أداة يكتشف بها المخلوقات ما عليهم القيام به من تطوير وجودهم حتى بلغ السو بهم الطور الآدمي، الذي نعيشه اليوم والذي وصل ويصل يومًا بعد يوم، للوقوف على ما ينبغي أن تكون عليه الحياة الأفضل، وكل ما يحدث من أمور قد تبدو مأساوية في ظاهرها ما هي إلَّا نكت في قلوب الناس عبر الأجيال تؤدي في النهاية لتغيير حتمي.. هذه النظرة الأكثر تفاؤلًا هي التي تجعلنا نتناول ما يحدث من فتن وسفك دماء وخراب بشكل مفيد للبشرية، حيث نقوم خلالها بما ينبغي أن نقوم به، ونتخذها قواعد ننطلق منها لصنع واقع جديد يستحق الكثير من التضحية.. هذا الواقع الجديد لن يكون من صنع جنس محدد أو عرق معين أو دين بعينه أو طائفة بذاتها بل هو بنيان بنته البشرية على مدى آلاف السنوات، الكل صنعه وكل من ساهم فيه سيجني ثماره على حد سواء وكأنهم يصنعون سويًّا جنسًا جديدًا وعرقًا جديدًا ودينًا جديدًا منتخبًا من كل هؤلاء الذين تميزوا عبر القرون.. نهاية الزمان بداية فكن من أحد صانعيها ولا تكن من الجنس البائد المنقرض الذي يفسد فيها ويسفك الدماء، وإنما كن كما أراد الله خليفة له في أرضه فهو يعلم ما لا تعلمون..