"القصف الروسي كان بعيد عن مواقع داعش بستة كيلومترات". جاء هذا في بيان البنتاجون عن الغارات الروسية الأولى من نوعها في سوريا التي استهدفت مواقع ومعسكرات وأهداف للتنظيمات الإرهابية المسلحة في مختلف المناطق شمال وشمال شرق ووسط البلاد. والسؤال هنا إذا كانت وزارة الدفاع الأميركية وأجهزة الاستخبارات الغربية عموماً تعرف مواقع داعش بهذه الدقة، فلماذا لم تستهدفها؟ ولماذا استنكرت دول التحالف الغربي-المتلكئ والمتواطئ- الإجراء العسكري الروسي الناجز والفعال؟ للدرجة التي خرجت فيها عناوين معظم الصحف ووسائل الإعلام في الولاياتالمتحدة بعنوان شبه موحد عن أن الغارات الروسية لم تستهدف داعش وإنما استهدفت المعارضة المسلحة "المعتدلة"، التي هي في واقع الأمر جبهة النُصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا. بالإضافة لسقوط مدنيين أعلن عن مقتلهم قبل بدء الغارات الروسية من الأساس. في الواقع لا يوجد إجابة أفضل من ردود فعل الولاياتالمتحدة وحلفائها وعلى رأسهم السعودية وإسرائيل، ودول التحالف الذي تقوده الأولى والذي من المفترض أنه ضد داعش، على الغارات الروسية. فالمبادرة الروسية بمحاورها السياسية والعسكرية، قطعت شوطاً كبيراً في وقت قصير في مسألة محاربة داعش والتنظيمات الإرهابية في سوريا؛ كعنوان وخط عريض لإستراتيجية واضحة المعالم بلورتها موسكو في غضون أسابيع وعلى أساس شرعي مستمد من كون داعش والنُصرة تنظيميين إرهابيين بموجب قرارات الأممالمتحدة ومجلس الأمن، والتي أعقبها إستراتيجية أوباما وغارات تحالف دولي ساعدت في تحقيق انتصارات ميدانية ومعنوية للإرهابيين، وجهد أميركي مشترك بينها وبين حلفائها أخر انجازاته تدريب خمسة أفراد فقط ك"معارضة معتدلة"(!)، كذا كون الإجراءات الروسية العسكرية تحديداً تأتي في إطار التنسيق مع الدولة السورية، الجهة الوحيدة التي تملك الشرعية في سوريا، وهنا الأمر يتجاوز فكرة العلاقات الجيدة بين البلدين فقط كدافع لما أقدمت عليه موسكو مؤخراً، من رفع وجودها العسكري في سوريا، وصولاً لغاراتها الأخيرة واحتمالية عملية برية قريبة وربما تكرار الغارات ضد داعش في العراق حسبما أعلن اليوم، ليصل إلى مستوى واقعي فرضته تطورات الأزمة السورية التي أصبحت بشكل ما مسألة أمن قومي روسي؛ فغني عن الذكر أن الآلاف من مقاتلي داعش والنُصرة ومختلف التنظيمات الجهادية المتطرفة من دول الاتحاد السوفيتي السابق، أي أن نقل تجربتهم في سوريا إلى تخوم روسيا يعني مسألة خطر وجودي على موسكو، يضاف إلية تطورات الأزمة الأوكرانية والوجود العسكري لواشنطن والناتو في دول أوربا الغربية وعلى رأسها أوكرانيا. ذلك كله ويزيد حدا ببوتين أن يتخذ إجراءات حاسمة بغطاء شرعية الخيار العسكري، سواء طبقاً للأمم المتحدة، أو لمحاربة الإرهاب وتمدده وخطره على دولة حليفة كسوريا، أو في النهاية لأن عدم اتخاذ أي فعل تجاه خطر بعيد محتمل يجعله خطر قريب حقيقي. يكفي للدلالة على هذا تهديد الجماعات المتطرفة في سوريا عند بداية احتمالية تدخل ميداني روسي بأيام أفغانستان في الثمانينيات والشيشان في التسعينيات، واستدعاء النموذج والخطاب الجهادي القديم ضد الروس، كذا تلويح الإعلام ومراكز الأبحاث ذات التوجهات الأميركية-السعودية بتكرار أفغانستان وشيشان جديدة لموسكو ولكن في سوريا تمهيداً لنقلها إلى آسيا الوسطى على الحدود الروسية. والسؤال هنا هو لماذا لم تُقدم موسكو على الخطوة من قبل، سواء فيما يتعلق بالمبادرة والمبادأة بدور قيادي في الأزمة السورية ومحاولة بلورة تحالفات حتى مع خصوم للنظام السوري مثل السعودية قاعدتها محاربة داعش، أو فيما يتعلق بالإجراء العسكري الذي يعد بداية معركة ميدانية قد تتطور إلى اشتراك قوات برية روسية أرتفع عددها في سوريا خلال الأسابيع الأخيرة؟ الإجابة هي أن موسكو كانت في انتظار اللحظة المناسبة التي تمكنها من تطوير موقعها كطرف فاعل في الأزمة السورية إلى طرف يقود مبادرة بُنيت على إخفاق المبادرات والتحالفات والترتيبات الأميركية، واستغلت الإخفاقات المتتالية لإدارة أوباما والفراغ الذي نتج عنها في احتلاله وتطوير نتائج الإخفاق إلى المبادرة في صنع أفق وقواعد لعبة جديدة بعد خمسة أعوام هي عمر الأزمة، ناهيك عن الأزمات والعقبات الداخلية الآنية للولايات المتحدة التي تستعد لاختيار مرشحي الانتخابات الرئاسية القادمة، والحال نفسه بالنسبة لمسلسل الانتخابات التركي المكرر، والسعودية التي تعاني من أزمات داخلية اقتصادية وسياسية ومتورطة في حرب اليمن. وقبل ذلك تحسن موقف ميداني وسياسي لمكونات محور المقاومة، وخاصة بعد الاتفاق النووي الإيراني الذي وسع هامش المناورة والفعل لعديد من الأطراف على رأسها إيرانوروسيا تجاه ملفات عدة على رأسها الملف السوري. هذا بخلاف أن الخطوة الروسية تأتي بعد فتح باب الانضمام لتحالف ضد داعش يتضمن روسيا والسعودية وسوريا سقفه الحرب ضد داعش، وهو ما لم تذهب إلية السعودية وثبت أن التجاوب الأولي للرياض في إطار بحث وتحضير صيغة لهذا التحالف كان –بالحد المعقول من العقلانية- لفرض شروط أو مبادلة إطلاق يد في اليمن مقابل التنازل عن فكرة رحيل الأسد، وهو ما لم يكن في العرض الروسي، وبالتالي ذهب بوتين سريعاً إلى بلورة تحالف إقليمي سياسي وعسكري يضم في الظاهر سورياوالعراقوإيران، بالإضافة إلى روسيا، وفي الخلفية يضم حزب الله وقوات الحشد الشعبي في العراق، عن طريق غرف تنسيق وقيادة على مستوى الدول الأربعة هدفه المعلن أيضاً القضاء على الخطر الداعشي. وبعيداً عن الخلفيات، فإن الغارات الروسية أتت لتضيف للبئر ماء، فالغارات الأولى استهدفت تقريباً أهداف لجميع الفصائل المسلحة في سوريا على رأسهم بالطبع داعش والنُصرة، وعلى نطاق جغرافي واسع وغير محدد بدائرة عمل ميداني، وهي خطوة لها تفسيرات عديدة ورسائلها متعددة سبقتها كواليس إبلاغ موسكو لكافة الأطراف بها بمن فيهم الأميركيين، فالعمل العسكري في النهاية وسيلة أخرى لتحقيق أهداف سياسية، وهذا يعني بشكل مبدئي أن روسيا تقول للجميع، أنها فاعل رئيسي في الميدان السوري بجانب الجيش النظامي والمقاومة، وعلى الجميع أن يتعامل مع الأزمة السورية عسكرياً وسياسياً على هذا الأساس. وهو ما يعني أن سياسة أمر واقع سادت أمام إخفاقات متتالية لواشنطن وحلفائها عسكرياً وسياسياً، وكذلك انعدام أي بدائل جاهزة لخلاف ما طرحته روسيا وشرعت به على أرض الواقع وفي زمن قياسي. أما عن تداعيات بدء دوران العجلة العسكرية الروسية، فإن سرية تكتيكات وسير المعركة التي بدأت أمس -الذي يحرص عليه خصوم روسيا ومحور المقاومة ككل أكثر لعدم تأكيد الهيمنة الروسية العسكرية على أرض الميدان- قد بدأ في التكشف بإعلان روسيا لإحصاءات قواتها الجوية العاملة في روسيا أمس، والتي بلغت 50 طائرة بين نقل ومروحيات ومقاتلات متعددة المهام. هذا بخلاف الحديث في الصحف الإسرائيلية عن عملية برية واسعة بدأت بالفعل بالغارات الروسية التي هدفت لقطع الاتصال بين نقاط تمركز الإرهابيين في الشمال السوري، تمهيداً لعملية برية يحشد لها من الجيش السوري ومقاتلي حزب الله وربما قوات إيرانية- الوجود العسكري الإيراني في سوريا حتى الأن لا يتجاوز مستوى المستشارين وضباط الحرس الثوري وليس وحدات مقاتلة- وذلك حسبما جاء في تقدير موقف صادر من مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي ونشره موقع "والا" الذي لم يستبعد في تعليقه على تقدير الموقف أن تمتد العمليات البرية من إدلب وحماة إلى حلب والرقة –عاصمة الخلافة الداعشية-، على أن تبدأ بفتح جبهة إدلب المسيطر عليها من جانب مسلحي جبهة النُصرة، التي بدأت في إعادة تمركز يبتعد شمالاً حتى الحدود التركية. كذا استهدفت الطلعات الجوية الروسية التي بلغت 8 طلعات بمشاركة طائرات متعددة المهمات على رأسها سوخوي 25 فصائل إرهابية أخرى مثل أحرار الشام. ولم يستبعد التقدير أن تقاد هذه المعركة من غرفة عمليات مشتركة تجمع عسكريين من دمشقوموسكو وطهران وحزب الله. وطبقاً للسابق، والذي هو استيضاح أولي لتطورات الموقف في سوريا على ضوء المتغير الروسي السياسي والعسكري الأخير، فأن هناك استنتاجات رئيسية تسهم في وضوح أكثر لما يحدث الأن وما سوف يحدث في المستقبل القريب منها: الموقف الميداني، وهو بالخطوة الروسية الأخيرة يجعل الميزان في صالح الدولة السورية وحلفائها أكثر من ذي قبل، فبخلاف الغطاء الجوي والتنسيق والقيادة المشتركة، فأن بوصلة الضربات العسكرية الروسية جاءت سورية بامتياز، سواء في الامتداد الجغرافي الذي نفى أن الوجود العسكري الروسي يهدف لضمان منطقة آمنة للنظام السوري في الساحل والوسط، أو في استهداف الغارات لمعظم الفصائل الإرهابية، وهو ما يعني أن موسكو تسير على مبدأ دمشق في أن كل من يرفع السلاح ضد الدولة السورية هدف مشروع بغض النظر عن من يقف وراءه سواء كان دولة إقليمية كالسعودية أو تركيا، أو حتى الولاياتالمتحدة ومعارضتها "المعتدلة. أضف إلى ذلك فرض أمر واقع بوجود مقاتلات روسية وسورية في الجو –الطائرات السورية حُجمت في تنفيذ ضرباتها بحرية منذ بدء غارات التحالف الدولي- مدعومة بأطقم دفاع جوي روسية، وهو ما لا تملكه أي دولة من دول التحالف، ويجعل قبل كل ذلك غارات التحالف وطائراته مراقبة من جانب الرادارات الروسية. وبالمثل للطائرات الإسرائيلية التي حُجمت حرية عملها في الأجواء السورية، وانسحاباً على دورها في توفير غطاء نيراني جوي لمسلحي النُصرة وغيرها من الفصائل المسلحة. الموقف الإقليمي، أساسه الحالي هو الاستحالة العملية لمسألة رحيل نظام الأسد وإنهيار الدولة السورية، التمثيل العسكري الروسي في سوريا يهدف حالياً إلى نفي هذه المسألة، وتطرح موسكو على ضوءه مسارين أولهما مسار الحل السياسي على أسس ليس منها رحيل النظام أو تقسيم سوريا، والمسار الثاني هو القبول بسيناريو الحل الروسي المبني على أساس لا سلاح إلا سلاح الجيش السوري، وبقاء الدولة والنظام وكل ما دون ذلك قابل للنقاش والتفاوض، وقبل ذلك بالطبع بديهية القضاء على داعش والنُصرة أو على الأقل تقويضهما بشكل حقيقي. وعلى كافة الأطراف الإقليمية وعلى رأسها السعودية وتركيا وإسرائيل أن يحددوا في أي من المسارين يذهبوا، خاصة وأن منهجهم طيلة عمر الأزمة السورية ثبت فشله، ولا يملكون في الوقت الراهن مسارات بديلة. الموقف الدولي، ومرتبط بدوافع روسيا من أجراءتها الأخيرة في سوريا، وعلاقة ذلك بصراعها مع الولاياتالمتحدة، فبخلاف مسألة عودة إرهابيي دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى بلادهم وتهديد الأمن القومي لروسيا، فليس هناك دواعي جادة تجعل روسيا تصعد إلى الحد الذي سوّق في بعض وسائل الإعلام بأنه "بداية الحرب العالمية الثالثة"، هذه المبالغة تأتي على خلفية الصورة الذهنية لروسيا في وعيّ الكثيرين، ففي النهاية روسيا لم تعد الاتحاد السوفيتي، وقدراتها العسكرية والاقتصادية تجعل عملية عسكرية موسعة قد تصطدم فيها مع واشنطن خارج النطاق الحيوي الروسي أمر يكاد يكون مستحيل في المرحلة التاريخية الحالية، ناهيك عن أن الأزمة السورية لا تنتهي بحل عسكري مضاد من جانب روسياودمشق وطهران بُنيّ على أجنحة 4 أسراب قتالية روسية (!)، ولكن واقعياً تهيئ باباً لحل سياسي تكون روسيا أيضاً وسيط مقبول لكل أطراف الأزمة، وأن خطواتها العسكرية الأخيرة أتت لترسم حدود وخطوط حمراء لن تطرح على طاولة مفاوضات. المحصلة: أكدت روسيا بخطواتها السياسية والعسكرية وأخرها غارات أمس على أمرين؛ أن لا انفراد أميركي وغربي ميداني في سوريا وخاصة في محاربة داعش وأخواتها. وكذلك مسألة أفق الحل السياسي وسقف التفاوض وخطوط حمراء لأي حوار إقليمي أو دولي لحل في سوريا. إلا أن هذا كله يبقى رهن مبدأ التحدي والاستجابة من كافة الأطراف. موضوعات متعلقة: