يحلو للبعض-عن قصد أو غير قصد- أن يخلط بين مفهومين متباينين-ربما- بهدف الوصول إلى صورة ذهنية يمكن تسويقها؛ لتستقر لدى الجماهير أو قطاع منها كونها أمرا مسلما به، من ينكره لا يمكن تصنيفه إلا تصنيفا شديد التطرف. من أشهر تلك النماذج التي نحن بصدد الحديث عنها، هو ذلك النموذج في الخلط بين مفهومي الدولة والسلطة السياسية؛ برغم أن التعاطي مع هذين المفهومين وكأنهما شيء واحد- أمر ينطوي على خطورة كبيرة؛ فالذي يعارض نظاما سياسيا؛ ويذهب في معارضته لسياساته كل مذهب، ربما يجد نفسه في النهاية وقد تحول إلى حال عداء مع الدولة ذاتها، وبدلا من أن يوجه طاقته لتغيير النظام أو إسقاطه وفق الوسائل المتاحة، سيرى أن الدولة بمؤسساتها التي عادة ما تكون أدوات طيعة في أيدي النظام الاستبدادي هي الداعمة للسلطة السياسية؛ بل هي أهم مقومات بقائها؛ ومن ثم يتحول التوجه إلى هدم الدولة؛ ويستباح في سبيل ذلك كل فعل مهما كان مخالفا لقيم المجتمع، وضاربا لفكرة الوطنية والانتماء. من جانب آخر، تحاول السلطة الاستبدادية التوحد مع الدولة للإيهام الدائم بأن سقوطها إنما هو سقوط للدولة، ويتعزز هذا المفهوم لديها إذا طال عليها الأمد؛ فإذا ما سقطت -أي السلطة الاستبدادية- عملت على إسقاط الدولة، عملا بالمبدأ القائل "أنا ومن بعدي الطوفان" لذلك كان الفصل بين كلا المفهومين أمرا من الضرورة بمكان، وبالرغم من أن مفهوم الدولة يعتبر من المفاهيم التي تستعصي على التعريف بشكل قطعي إلا أنه من الممكن القول "إن الدولة هي كل كيان سياسي يبسط نفوذه وسيادته على رقعة جغرافية معينة، ويفترض في سكانه أن يشعروا تجاهه بالمواطنة والانتماء، ويمكن تمثل أبعاد هذا الكيان في ضوء مفاهيم محددة مثل السيادة، والسلطة، والحق، والقانون، والحرية". ويرى الفيلسوف(سبينوزا) أن غاية الدولة تتمثل في ضمان الحماية للأفراد، وليس في ممارسة السلطة، بل إن على الدولة أن تضمن الشروط الموضوعية التي تمكن أفرادها من استخدام عقولهم، والعمل على تنميتها، وهو يؤكد أن الحرية هي الغاية الأساسية من وجود الدولة، ولكنه يؤكد- أيضا- على أن تقنين الحرية الفردية ضرورة حتمية وحصرها في حرية التفكير والتعبير وإصدار الأحكام، دون أن يجنح الفرد إلى تغيير الأشياء عمليا؛ لأن الدولة وحدها هي التي تملك سلطة اتخاذ القرار. يتصور( هيغل) أيضا أن العلاقة بين الإرادة الفردية والإرادة الجماعية تظل في تفاعل جدلي؛ لتصبحا إرادة مشتركة تترجم الدولة من خلالها تعاقدًا بين الأفراد. بينما يذهب (ماكس فيبر) بعيدا حين يؤكد على أن الدولة باعتبارها تجمعًا سياسيًا غير قابلة للتعريف إلا من خلال العنف المشروع والمحتكر من جانبها، وإلا آلت الأمور إلى الفوضى..لكن هذا العنف الذي على الدولة أن تمارسه من أجل تحقيق سيادتها، لابد أن يكون في إطار القانون، ووفق الآليات التي حددها، وإلا أصبحت الدولة ذاتها هي الداعية إلى الفوضى والمحرضة عليها. ليس ثمة دولة خارج إطار السلطة والسيادة، ولا يمكننا وضع تعريف لها خارج إطار هذين المفهومين، هذا ما يؤكده (بول ريكور) ولكن وفق مقومات لا يمكن الاستغناء عنها وهي"أن تتوفر الدولة على بيروقراطية منسجمة وقضاء مستقل، ومراقبة برلمانية، وتربية الأفراد على المناقشة الحرة". وتلعب الحكومة دور الرقيب في هذه الحالة وفق معايير محددة؛ تحقيقا لهذه المبادئ. ويرى (ابن خلدون) أن" السلطة السياسية يجب أن تتأسس على الاعتدال، والرفق بالرعية فهذه الأخيرة لا يهمها من الحاكم لا صفاته الجسمية ولا قدراته العقلية، إن الرعية تهتم فقط بما يمكن أن تلمسه من تأثير الحكم على حياتها؛ فإذا تأسس الحكم على الاستبداد والتربص بالرعية، فعلى الحاكم أن يتوقع خذلان رعيته عند حاجته إليها؛ وفي المقابل إذا كان حليمًا وعطوفًا تناسوا سيئاته وأحبوه". تأسيسا على غير ذلك تماما يرى ( ميكافيللي) "أن عظمة الحكام ترجع إلى استعمالهم لأساليب المكر والخداع" لذلك فهو ينصح بضرورة الجمع بين القانون واستعمال القوة والعنف، فلا حكم إلا لمن يستطيع الجمع بين القوة، والمكر، والخداع؛ ولابد أن يكون قادرًا على خيانة الأمانة ونقض العهود، عندما لا يخدم الوفاء مصلحته أو عندما تنتهي أسباب ودواعي إقامة تلك العهود؛ فرعاية الأمانة أمر لا يستقيم إلا مع رعية مكونة من الأخيار". وربما فسر هذا حرص المستبد الدائم على إفساد المواطنين بشتى الطرق، ناهيك عن احتقار العلم؛ لينتشر الجهل على أوسع نطاق. إن الحديث عن الدولة على نحو ما ربما يمثل جنوحا مثاليا لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، فيصبح صاحبه أسير "يوتوبيا" غير موجودة سوى في خياله، وهذا ما ترفضه (جاكلين روس) مؤكدة "على أن دولة الحق أصبحت واقعًا معيشًا، ولم تعد كيانًا مجردًا، فدولة الحق تتجلى في الممارسة المعقلنة للسلطة، وتسعى إلى توفير الحريات الفردية وبلورة الحريات العامة، لأن الدولة توجد لخدمة الفرد، وليس العكس، لأنها تعتبره قيمة مؤسسة، وسلطة دولة الحق تتخذ ملامح ثلاثة: القانون، الحق، والفصل بين السلطات". إن السلطة السياسية عندما لا تراعي كل ذلك فإنها تكون بذلك قد أخلت بواجباتها تجاه الجماهير، كما أنها تكون قد تغولت على الدولة، ووضعتها في موضع المساءلة، ومن ثم الحساب. وفي أحيان كثيرة تكون الدولة في حال من الوهن بسبب استمرار محاولات إضعافها للسيطرة عليها بشكل كامل من جانب السلطة الاستبدادية، وتصبح مع الوقت قائمة قيام الرمز على سبيل الاعتبار، فلا هي بالتي تقوم بدورها نحو المجتمع من خلال دور فاعل لمؤسساتها، ولا هي انهدمت وانمحت، ويكون ذلك بتأثير ما تملكه من عوامل البقاء بفعل القِدم ورسوخ الأركان وآلية عملها البيروقراطي. لذلك فإن من المسلم به أن بناء الدولة إنما يكون فعلا جماعيا ينهض به المجتمع بأسره؛ تأسيسا على وعي كامل بالضرورات والمتطلبات من خلال تبصر الذات وتمحيص أوجه الاختلاف والاتفاق في حدود الحق والواجب؛ إذ إن الحضور المؤسسي القوي للدولة القائم على العدل والمساواة والشفافية- في حياة مواطنيها هو ما يمنحهم الشعور الحقيقي بالانتماء. ومن المسلم به أيضاأن الدولة يجب أن تظل بمعزل عن النزاعات الداخلية والتوترات الطائفية؛ والصراعات السياسية؛ لأن قوة الدولة تكمن في حيدتها، وأن تكون على مسافة واحدة مع جميع مواطنيها؛ كما أن اختطاف مؤسسات الدولة بشراء ولاء القائمين عليها أو بإرهابهم أو بأية وسيلة أخرى يعتبر تقويضا لدعائم الدولة، وهدما لأركانها؛ فليس من المعقول أن يكون الإفساد إحدى وسائل المحافظة على الدولة أو أن يكون خطوة فاعلة على درب بنائها. ويؤكد(عبد الإله بن بلقزيز) "أن أجهزة الدولة ومؤسساتها، مملوكة قانونا ودستورا، للأمة وأن النخبة السياسية الحاكمة التي تكوّن القوة الرئيسة للنظام السياسي وتمارس السلطة لا تفعل، أثناء تقلّدها السلطة، سوى التصرّف في تلك الملكية العامة لا حيازتها". إن السلطة السياسية التي تسعى إلى ابتلاع مؤسسات الدولة أو إخضاعها تعاند مبدأ هاما هو أن طبيعة الدولة من حيث البنية وظروف التكون والطابع المهني؛ يمنحها الاستمرارية والبقاء، بعكس السلطة السياسية التي تكون متغيرة ذات طابع إيدلوجي، ولها انحيازاتها الاجتماعية، وهي غير دائمة ولا يجب أن تكون وفق الظروف الطبيعية التي تسمح بالتداول داخل الإطار الديمقراطي، أو بالثورة عليها لتغييرها بالقوة، كما شاهدنا فيما سمي بثورات الربيع العربي، كما أن الدولة تستلزم اختيار الأكفأ، بينما تفضل السلطة السياسية- في الغالب- اختيار محل الثقة؛ لذلك فإن محاولات الخلط بين كلا المفهومين واعتبارهما شيئا واحدا، وما يترتب على ذلك من نتائج أمر لا تتوفر له معايير النزاهة والشرف والحس الوطني، مهما تعددت المبررات.