أنشأ القرآن الكريم عددا كبيرا من العلوم، كان الغرض منها جميعا محاولة الوصول إلى تفسير هذا النص العربي، الذي بنيت عليه الرسالة الإسلامية، وقد مر التفسير برحلة طويلة عبر أربعة عشر قرنا، بدأت بتبيين الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاني بعض الآيات، بعد استفهام أصحابه. ومن أمثلة التفسير النبوي، ما جاء في قوله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا إن القوة الرمي" وكررها ثلاثا، ومن ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه"، فيما رواه البخاري بإسناده، عن عبد الله بن مسعود قال: خط النبي خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خطا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا". وكان الصحابة بعد وفاة النبي متفاوتين في درايتهم بالتفسير، وقد اعتبر السيوطي، أن أعلم الأصحاب بالتفسير الخلفاء الأربعة: أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، ثم عبد الله بن مسعود، والزبير بن العوام، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبوموسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وأرجع السيوطي تفوق الأخير إلى وفاة التسعة قبله، وقلة اختلاطهم بأغلب التابعين، مما جعل ابن عباس المرجع الأول في هذا الميدان. وقد اهتم ابن عباس بالجانب اللغوي، وأبرز قيمته وضرورته في إدراك معنى آيات الكتاب، وقد نقل عنه الطبري قوله: "إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي"، كما أضاف ابن عباس كثيرا من علمه بالتاريخ، وأخبار الأمم السابقة. ويعتبر ابن عباس رأس مدرسة التفسير بالمأثور، وذلك بسبب كثرة تلاميذه والنقلة عنه، لكن متتبعي المرويات عن ابن عباس رأوا أن كثيرا مما ورد عنه يشوبه الضعف والانتحال، وأن الملفقين نسبوا إليه كثيرا من الأقاويل والأباطيل التي تسربت إلى صحائف الأئمة في بداية عصر التدوين. ومع دخول القرن الثاني، بدأ الانتباه إلى الرواة وأخبارهم، وأخذ علم الجرح والتعديل طريقه إلى التشكل، كما بدأت ملامح علم التفسير تتضح، آخذة في الاعتبار مع الجانب العلمي جانبي المرويات واللغة، وهي الأسس التي بنيت عليها منظومة التفسير منذ منتصف القرن الثاني الهجري، لا سيما مع ظهور تفسير يحيى بن سلام. ويرى العلامة محمد الفاضل بن عاشور، أن ابن سلام هو مؤسس مدرسة التفسير بالمأثور عقب اتضاح معالمها، مع اهتمام بجانبي القراءات والإعراب، ويأخذ ابن عاشور على كثير من الكتاب اعتبارهم الإمام محمد بن جرير الطبري، المتوفى أوائل القرن الرابع رأس هذه المدرسة، فيقطعون بذلك سلسلة التطور التفسيري بين القرنين الأول والثالث، متمثلة في جهود ابن سلام في القرن الثاني. لكن الإمام الطبري يمثل مرحلة هامة وعلامة فارقة في مسيرة التفسير، وكتابه يعد أول تفسير واسع يتتبع النص القرآني كلمة كلمة، وآية آية، موظفا درايته الكبيرة بالفقه والحديث والتاريخ، وقد قال عنه الخطيب البغدادي: "جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره"، وعلى كثرة ما أورد في كتابه من الأحاديث والآثار، إلا أنه كثيرا ما كان يقدم آراء الفقهاء على تلك الآثار التي أوردها، وهو ما أدى إلى شيء من التنازع حول تصنيف تفسيره. وفي مقابل المتمسكين بالآثار، ظهر تيار الاعتزال يدعو إلى التأويل وإعمال العقل في النصوص، وفي مقابل الطبري، ظهر من مفسري المعتزلة أبو مسلم الخراساني، وأبو علي الجبائي في القرن الرابع، والشريف المرتضى في القرن الخامس. وكما جرى الفقه، أصبح المفسرون ينتمون إلى مدرستين كبيرتين: مدرسة الأثر، ومدرسة الرأي، ودخل أصحاب الاتجاهين في حالة من المواجهة والتدافع، وخاصة فيما يعرف بمتشابه القرآن، الذي كان يجنح المعتزلة إلى تأويله، ويصر أهل الحديث والأثر على السكوت عنه والتفويض فيه، وقد كان لهذه المواجهة أثر بالغ في إنضاج علم التفسير، وفتح آفاق جديدة أمام محاولات إدراك معاني القرآن. ولا ريب أن كل فريق قد ترك أثره في الفريق الآخر، فظهر مفسرون يستخدمون أدوات أهل الرأي دون اتباع المعتزلة، كما اتضح لكثير من أصحاب الرأي صعوبة الاستغناء الكامل عن المرويات، لاسيما تلك الأحاديث التي توضح أسباب النزول، والسياق الذي جاءت فيه الآيات. وبلغ الاهتمام بالجوانب اللغوية مبلغا كبيرا في نهايات القرن الخامس وبدايات القرن السادس، لاسيما مع ظهور عبد القاهر الجرجاني، صاحب "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة"، ومحمود بن عمر الزمخشري، صاحب "الكشاف"، و"أساس البلاغة". ومع القرن السابع ظهر الإمام فخر الدين الرازي، وجاء تفسيره المسمى "مفاتيح الغيب" مهتما بالمعاني، معرضا عن الفلسفة وطرائق المعتزلة في العناية بالتراكيب اللغوية، ثم جاء الإمام ناصر الدين البيضاوي، المتوفى سنة 685 هجرية، ووضع تفسيره المعروف "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" يجمع فيه بين طريقتي الزمخشري والرازي، فيسير على نهج الأول فيما يخص دقائق اللغة وتراكيب الجمل، ويقتفي أثر الثاني في استجلاء المعاني. وأخذت مسيرة التفسير في التطور، مع ظهور تفسير أبي السعود في القرن العاشر، ثم شهاب الدين الآلوسي، صاحب "روح المعاني" في القرن الثالث عشر، وهو آخر المفسرين الكبار قبل بدء عصر النهضة، وظهور جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الإمام محمد عبده، الذي أحدث نقلة كبرى في طرائق التعامل مع القرآن، من خلال تفسيره للأجزاء الخمسة الأولى، إضافة إلى جز "عمّ".