في الوقت الذي اعتمدت فيه المقاومة الفلسطينية خلال ستينات القرن الماضي على الكفاح المسلح لاسترجاع الأراضي المحتلة، كانت لبنان أولى الدول التي احتضنت منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تعبر عن المقاومة، والتي اتخذت من أرض لبنان منطلقًا للبدء بحرب المقاومة والانتصار، وبدأ الفدائيون بهجومين مسلحين من الأراضي اللبنانية في عام 1967، وكان يقيم في لبنان خلال نهاية الستينات ما لا يقل عن 235 ألف فلسطيني، ما مكن حركة المقاومة من تجنيد المزيد من المقاتلين يوما بعد يوم. بعد خروج ياسر عرفات، من الأردن وانتقاله إلى لبنان في أعقاب أحداث أيلول الأسود مع النظام الأردني، حدثت بعض التوترات في البداية، بعد محاولات لعملاء الكيان الصهيوني بضرب علاقات المقاومة الفلسطينية بالجيش اللبناني، حيث نشرت تقارير أن هناك اشتباكا بين دوريات الجيش اللبناني ومجموعة من الفدائيين، إلا أنه سرعان ما نفت القيادة اللبنانية أي علاقة لها بالحادث، وأصدرت الأحزاب اللبنانية بيانًا حول هذه الاشتباكات طالبت فيه بالكشف عن الأيادي التي دبرت هذه الفتنة. جنبلاط، وزير الداخلية اللبناني، كان يعي هذه المؤامرات، فأكد في تصريحات له أن لبنان دائمًا ما تقف بجانب فلسطين، وأن العملية المسلحة ضد الفلسطينين هي بلا شك مؤامرة مدبرة وفاضحة، ومع تكرار فشل هذه العمليات، تسلل ليلا بضع عشرات وربما مئات من اللبنانيين المسلحين، وأخذوا يطلقون النار على الفلسطينيين، كما وجد أيضا في إحدى البنايات أشخاص يطلقون النار على الفلسطينيين وأحيانا على اللبنانيين، لخلق جو من الفتنة في المنطقة بين الفلسطينيينواللبنانيين، في ظل تأكيدات رسمية أن هناك مخططا من مخابرات أجنبية وراء هذا الحادث، وأن الفلسطينيين ضبطوا أنفسهم وكانوا يتعرضون للهجوم ولا يردون. وبالتزامن مع نقل مقراتها إلى بيروت، جندت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية أعضاء جددا من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وكان جنوبلبنان يلقب ب"أرض فتح"، نظرا لهيمنة حركة فتح هناك والتي ينتمي إليها ياسر عرفات، مع عمل جيشها الخاص بحُرية في لبنان. استخدمت الفصائل الفلسطينيةجنوبلبنان كقاعدة عمليات لشن هجمات على الكيان الصهيوني، وضد مصالحه في جميع أنحاء العالم، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الأخرى المسلحة تنفيذ سلسلة من عمليات خطف الطائرات، والتي تستهدف رحلات جوية إسرائيلية ودولية، على متنها إسرائيليون ويهود. واختلف الوجود المسلح في المخيمات في لبنان عن غيره من الدول المضيفة، واستفاد الفلسطينيون من وجودهم في لبنان كمنبر سياسي ومنصة عسكرية لخدمة قضيتهم التي كاد أن يلفها النسيان في سياق العجز العربي عن مواجهة إسرائيل. تعززت علاقة المقاومة الفلسطينيةبلبنان في أواخر الثمانيات وحتى الآن، من منطلق أن لبنان تعتبر الأكثر خبرة في مقاومة الاحتلال من بين جميع البلدان العربية في نصف القرن الأخير بعد المقاومة الفلسطينية، فهي في دائرة استهداف عسكري إسرائيلي لم ينقطع منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، حينما كانت القرى الحدودية اللبنانية تتعرض باستمرار إلى اعتداءات إسرائيلية. بعض اللبنانيين يفخرون بأن الاعتداءات الصهيونية كانت ضريبة دفعتها لبنان نتيجة استضافة المقاومة الفلسطينية التي أقر اتفاق القاهرة عام 1969 وجودها على الأراضي اللبنانية، وهو ما تعزز عقب أحداث سبتمبر 1970 في الأردن، لكن هذا الوجود الفلسطيني العسكري والسياسي والفكري كان في الوقت نفسه حاضنا مناسبا لبذور فكرة المقاومة في لبنان التي غذتها الانتهاكات الإسرائيلية. استهدف العدوان الإسرائيلي عام 1978 تحديدا ضرب قوات المقاومة الفلسطينيةواللبنانية ومنعها من استخدام أراضي الجنوب لضرب مناطق شمال الكيان الصهيوني، لكن حدثت خلال هذا العام عمليات مقاومة شارك فيها متطوعون عرب قدموا من دول عربية مختلفة، وتم إنشاء كيانات سياسية وعسكرية لمقاومة لبنانية من مختلف القوى اليسارية والقومية والإسلامية تعمل خارج إطار المقاومة الفلسطينية وإن استمرت بالتعاون معها، فالهدف الجديد بات تحرير لبنانوفلسطين معا إلى جانب الاستمرار بمهاجمة الاحتلال في العمق، ومن هنا تعتبر المقاومة عام 1978 أساس المقاومة التي خاضت المواجهة مع العدو الصهيوني في عام 1982. في يونيو من ذلك العام شن العدو الصهيوني عدوانا شاملا على لبنان، ولم يكتف هذه المرة بجنوبه، بل تقدم إلى العاصمة بيروت واحتلها لتحقيق هدف مباشر هو إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وقد تجسدت مقاومة الغزو الإسرائيلي بتحالف يضم مقاتلين فلسطينيينولبنانيين تحت اسم القوات المشتركة للحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية، أو القوات المشتركة للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وحركة أمل، لكن هذا التحالف الذي قاتل القوات الإسرائيلية خلال تقدمها في الجنوب وضم مقاتلين من الحزب القومي السوري الاجتماعي، ومن الحزب الشيوعي اللبناني، ومن حزب البعث، ومن الناصريين، ومن حركة أمل، إلى جانب المقاتلين الفلسطينيين ما لبث أن تحول إلى مقاومة لبنانية صرفة بعد احتلال بيروت في سبتمبر من ذلك العام، بعد خروج قوات المقاومة الفلسطينية من لبنان. كانت بيروت العاصمة العربية الثانية بعد القدس التي يحتلها العدو، في ذلك الوقت كانت الأوضاع تشير إلى انهيار الجبهة اللبنانية–الفلسطينية، وانقلاب موازين القوى الداخلية بانتخاب بشير الجميل، رئيسا للجمهورية، فيما مثلت أيضًا زيارة ياسر عرفات إلى مصر، إشارة صريحة إلى الخيارات الجديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية. يبدو أن التوأمة التي ظهرت جليا بين فصائل المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية كان لها من الآثار الحسنة على تشكيل وعي المقاومة اللبنانية، بالرغم من المحاولات التي خاض الموساد الصهيوني غمارها لإفساد العلاقة بين الفصائل الفلسطينية وعموم الشعب اللبناني بتحميل أسباب الحرب الأهلية اللبنانية على ظهر المقاومة، لكن الإدراك الذي حكم عقولهم انعكس جليا على أرض الواقع مؤكدا من جديد أن الصراع مع الاحتلال الصهيوني لا يقتصر على الفلسطينيين وحدهم بل هو صراع عربي– صهيوني خالص. وفي ذلك الوقت انقسم الوضع الفلسطيني على نفسه، ولكن المتغير الأكثر بروزا بعد حرب 1982 كان، انتقال مركز ثقل المقاومة الفلسطينية إلى داخل فلسطين، ونشأة السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، ونشوء المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله في مرحلة شديدة الخطورة، وتفاوت ميزان القوى، ما دفع المشهد إلى معادلات جديدة وتحالفات موضوعية بين القوى السياسية. وخلال مرحلة التسعينات تعزز دور حزب الله بالمقاومة في الجنوب، وتمكن من القيام بعمليات نوعية واستخدم أساليب قتالية متطورة وأسلحة متقدمة، فيما كان العدو الصهيوني يرد بقصف الأراضي اللبنانية لاسيما في الجنوب، والقيام باجتياحات محدودة يعوض بها فشله عسكريا. بعد أن وضعت الحرب أوزارها عقب الاجتياح الصهيوني للضفة الغربية كان من الواضح بحسب أغلب المحللين أن السلطة الفلسطينية والتي كانت قد وضعت سلاحها جانبا وتمسكت بالمفاوضات والمشاورات، لم تدرك مطلقا أن النهج السياسي ما هو إلا طريق يسلك لدعم المقاومة المسلحة تحت وطأة الاحتلال الصهيوني، أما العمل السياسي لا يمكن أن ينعزل عن القتال المسلح، لذا وبعد أن وصلت حركة فتح إلى هذا الحال، كانت حماس والجهاد حركات متبقية من المقاومة الفلسطينية بالإضافة إلى رتوش من الفصائل الأخرى بعد أن تفرقت باقي القوى الوطنية المسلحة لأسباب عدة، ومنذ ذلك الحين بدأت حركات المقاومة اللبنانية في التعاون مع نظائرها في فلسطين لإسقاط المشروع الصهيوني واقتلاعه من الجذور. جاء ظهور المقاومة الفلسطينية كقوة لا يستهان بها في العدوان الأخير على قطاع غزة، بحسب الخبير والمحلل العسكري اللواء المتقاعد واصف عريقات، وامتدادا لانتصارات المقاومة اللبنانية عام 2000 و2006، موضحًا أن انتصارات المقاومة اللبنانيةوالفلسطينية تكاملية من ناحية إرادة الصمود والمواجهة وتبادل الخبرات والدروس المستفادة. وأضاف أن العلاقة بين المقاومة الفلسطينيةواللبنانية تكاملية واستراتجية من ناحية تبادل الخبرات "حزب الله يقر بأنه استفاد من المقاومة الفلسطينية في لبنان، والمقاومة الفلسطينية الحالية أقرت بشكل واضح أنها استفادت من الخبرات والدروس من حروب حزب الله مع العدو الصهيوني واستخلصت العبر العسكرية والسياسية في التعامل مع المحتل". تكفي نظرة واحدة إلى سير العمليات العسكرية الهجومية والدفاعية خلال حرب غزة الأخيرة التي استمرت نحو 51 يوما بين الفصائل الفلسطينية والعدو الصهيوني، ليظهر جليا أن التعاون بين المقاومة الفلسطينية وحزب الله أثمر عن استنساخ النموذج العسكري مع مراعاة الفروق في الجغرافيا والخصوصية الفلسطينية، وهو ما يصفه البعض بأنه "غيرة المقاومة من المقاومة". وبخلاف التعاون العسكري بين حركات المقاومة الفلسطينية وحزب الله، فإن الحزب يحرص على وجود علاقات قوية مع كبار قيادات الحركات الفلسطينية التي تواجه الاحتلال وتتصدى لانتهاكاته، وهو الأمر الذي ينعكس جليا خلال زيارات وفود الحركات الفلسطينية إلى لبنان واللقاءات التي تجمع هؤلاء القيادات بمسؤولي حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله.