هل تعجب من قولي "تحدث الرضيع"؟ لك فاعلم، عندما يموت الرضيع حرقا، ويتفحم جسده الغض، ينطلق لسانه من عقال الطفولة، فيتحدث بأبلغ الكلام وأقساه، لعالمٍ قاسٍ لم يرحم رقة عظمه ولطف لحمه، تحدث إلي الرضيع المحترق بحضن أمه في نابلس على يد الإرهاب الصهيوني، فقال: عذرا يا عماه! لم يعد وجهي جميلا ناعما يبعث البهجة في نفسك، لم أعد قادرا على محاولة نطق اسمك بلساني الذي كان غضا نديا، فقد أتت النيران على شفتيّ اللتين تعلمتا منذ وقت قصير تقبيل الأعمام والأخوال، لا تحاول حملي يا عماه، فمازالت النيران تلتهب بشحمي، فأخشى على يديك أنت تتضررا لو حملتني، كما تتضرر كل يد تحمل قضية شعبي ووطني، هذا عذري إليك يا عم، ولكن ما هو عذرك أنت؟. لقد انشغلت عني يا عماه في الأعوام الخمس الأخيرة كثيرا، وقد كنت أنت وبعض الأعمام من القوميين المنتشرين في العالم العربي عزائي الأخير، نعم لم تفعلوا لي شيئا ماديا ملموسا، فلستم أرباب سيف وقنا، لكنكم كنتم على الأقل تربتون عليّ بأصواتكم وأقلامكم، وتضمدون بها جراحات أهلي، وتواسون بها آلامهم، وبها كنتم تحيون قضيتنا حتى لا تموت في الضمائر كما ماتت في المحافل. ثم جرت الخطوب الجسام منذ 2011 ولليوم، فنسيتموني، أنت ضد "حماس" يا عماه، وكثير من أهلي هنا في نابلس ضدها بدورهم، نعم، أذكر أنك كنت تقول إن "فلسطين ليست غزة وغزة ليست حماس"، لكنك سمحت بالفعل لبغضك لتنظيم الإخوان أن يتفوق في قلبك على حبك لفلسطين، وسمحت لل"عَرَض الداعشي" أن يلهيك عن "المرض الصهيوني"، فما هو عذرك؟. قد أفهم عذر بعض من لا يعرفون، من يحسبون أن قضية فلسطين للعرب هي قضية تعاطف أخوي، أو ترابط قومي، من لا يفهمون أن جسد هذه الأمة قد غرس فيه الاستعمار ثلاثة خناجر مسمومة، أولها خنجر الكيان الصهيوني، وثانيها خنجر الجماعات التكفيرية، وثالثها الأنظمة التقليدية في الخليج العربي، والتي تهادن الخنجر الأول وترعى الخنجر الثاني، قد أغفر لمن لا يفهم ألا نماء ولا رواء لأي قطر عربي ما بقيت تلك الخناجر الثلاث في جسد الأمة، قد أغفر لمن لم يقرأ التاريخ، ولم يعرف أن كل قائد عربي عروبي في التاريخ الحديث كان لابد للاستعمار من كسره، لأنه يشير نحو الطريق الصحيح، وأن كل تيار طائفي وديني كان لابد من دعمه ورعايته لأنه يشير للطريق الذي يبرر وجود إسرائيل ويكرس لها. هكذا تحدث الشهيد "على دوابشة"، بعمره الذي لم يتجاوز الثمانية عشر شهرا! فأجبت: عذرا يا ولدي! ربما كنا في زمن يتحتم فيه أن يحترق الصغار ليفيق الكبار، ربما كنا في زمن ننسى فيه أوليات عروبتنا، ولا نذكرها إلا عندما تمس رائحة اللحم البشري المحترق أنوفنا، بحريق جسدك الغض لم تهزنا هزة عنيفة نفيق بها وحسب، بل أجبت على العديد من الأسئلة الحائرة عبر السنوات الخمس الماضية؛ لماذا يتعين على تلك المنطقة من العالم أن تنزف دائما؟ من أين أتتنا ثقافة حرق الأحياء ونحر الصغار؟ جماعات اليمين الديني لا تخدم نفسها قطعا بما يجري في المنطقة، فمن تخدم؟ حريق جسدك أبلغ رسالة لمن لم يفهم وهو يرى الدواعش في مشافي العدو الصهيوني، يشيدون بفيض تحنانه عليهم، لعلنا نفيق، ولعلنا نستعيد البوصلة الحقيقية.