يقول «أنا لست مغامرًا باختياري، بل بفعل القدر»، ويظل اسمه عظيمًا في عالم الفن التشكيلي، فهو الفنان الذي استطاع أن يحظى باحترام وتقدير وإعجاب مؤرخي ونقاد وعشاق الفن التشكيلي في كافة أرجاء العالم، ما جعل أعماله تحتل مكانًا بارزًا ومتميزًا في متاحف العديد من الدول، ولعل أشهرها متاحف موسكو ولينجراد.. وغيرها. ولد فينسنت فان جوخ (1853-1890)، بمدينة جروت تسوندرت بجنوبهولندا، لأبوين متدنين صارمين، أم قوية جداً وأب كاهن لم يشجعه على الرسم عندما ظهر نبوغه في رسم بعض الإسكتشات، عندما كان في الحادية عشر، وكان شقيقه "تيو" صديقه المقرب على مدار حياته تعتبر الرسائل التي كتبها له بمثابة توثيق لحياته. إلتحق فان جوخ بمدرسة داخلية، وأهله والداه للعمل في تجارة الأعمال الفنية، وبرع في شركة العم "سنت"، وعندما نقلته الشركة لفرعها في لندن، وقع في غرام سيدة تدعى "أوجيني"، لم تبادله الحب فحزن ولجأ إلى التدين ليساعده الرب. ثم انتقل إلى باريس وكره العمل في تجارة الأعمال الفنية وترك الشركة وانتقل مرة أخرى إلى لندن، وأقام بها، وعمل معلمًا للغة الفرنسية، وعندما عاد مرة أخرى إلى هولندا وشعر بقوة إيمانه وقربه من الله، قرر أن يصبح قسا وتقدم مرتين ليدرس اللاهوت وتم رفضه في المرتين. تعاطف فان جوخ وبشدة مع عمال المناجم الفقراء وزوجاتهم، منحهم من ماله، ووقف بجانبهم في الاضطرابات والاعتصامات. «البديل» تنشر في ذكرى وفاته بعض الكتابات المعاصرة عنه: علاء حجازي: لماذا قطع فان جوخ أذنه؟ الرسام الهولندي فنست فان جوخ، بعد مرور أكثر من مائة عام على وفاته مازالت تهمة إلصاق الجنون إليه تجتذب الكثير من الباحثين ومؤخراً أعلن أطباء أمريكيون أن فان جوخ لم يكن مصاباً بالصرع وإنما كان يعاني مرضاً في الأذن الداخلية دفعه إلى قطع إحدى أذنيه وفي النهاية إلى الإنتحار وهو في السابعة والثلاثين واستند خبراء المركز الطبي بولاية كولورادو في النتيجة التي توصلوا إليها للملفات الطبية ل فان جوخ من رسائله والمرض الذي يقدر الأطباء انه كان مصاباً به. هذا الداء يعرف طبياً بدوار فيير ويحدد بخاصيتين الأولى: ظهور ثلاثة أعراض بوقت واحد هي دوار وطنين وصمم والثانية: تطور حدة الآلم وتحولها لنوبات حادة يفصل بينها فترات من الهدوء والراحة المؤقتة هذه الأعراض مجتمعة تعرف بدوار فيير ويمكن للطبيب الاعتماد عليها في تشخيص حالة المريض لمعرفة ما اذا كان مصاباً بهذا الداء وسط العديد من أنواع الدوار المختلفة وتظهر هذه الأعراض على المريض نتيجة اصابة غشاء تجويف الاذن الداخلية التي تؤدي بدورها الى مرض يصيب دهليز الأذن والمنطقة المحيطة بها. ورغم أن الاطباء مازالوا يبحثون عن السبب المباشر لهذا المرض ورغم تطور التقنيات الطبية الا انهم يجمعون على ان من أسباب دوار فيير حدوث إرتفاع ضغط مفاجئ في السائل الليمفاوي الباطن مسببا تمدد حاد في غشاء الاذن الداخلية وهذا الخلل القوي هو المسبب لنوبة الدوار ويرتكز التشخيص بدرجة كبيرة على حدة وقوة النوبة وتواترها ثم حالة الهم والاكتئاب التي تنتج عنها والاثار السلبية التي تطال حالة السمع وتزداد سوءاً كلما تكررت النوبات. الأن أمامنا وسيلة جديدة يمكن الإستعانة بها في فهم شخصية فان جوخ وحقيقة مرضة الكامن في أذنه وقد عُولج في مستشفى سان – ريمي دو بروفالس الفرنسي على انه مصاب بمرض نفسي بعد ان قطع جزءاً من اذنه اليسرى في عام 1888 وأشرف على علاجه الدكتور غاشيه وهذا الأخير خلده الفنان بعدة رسومات له واعتبره صديقه وقد قال عنه إنه صديق وبشكل من الأشكال كأنه شقيق جديد ومن المعروف أيضاً أنه رسم نفسه 22 مرة إذ كان كلما أراد التعبير كان يستخدم الموديل الوحيد المتاح وهو وجهه بلا مقابل ووسيلته هي المرآة وأدواته هي ألوانه وضرباته المختلفة القوة والتقطيع والقسوة أحياناً . وإذا كان الأطباء في ذلك العصر قد أخفقوا في تحديد مكمن الداء عند الرسام إلا انه استطاع تحديد داءه بنفسه وأشار لمصدرة عندما عمد إلى قطع جزء من اذنه لقد قطع الرمز – الأذن الخارجية – وظل يعاني من الآلام التي تسببها الأذن الداخلية. ولو أعتمدنا على أعراض المرض التي ذكرناها نجد ان النوبة كانت حادة وعنيفة وان كان يعقبها مرحلة من الهم والإكتئاب واذا عدنا للفترة التي انتحر فيها نتيجة اليأس الكامل من شفائه نجد ان الخبر كتب كما يلي: أطلق فنست النار على نفسه من بندقية صيد بعد نوبة طويلة من الإكتئاب في 27 يوليو 1890 وتوفى بعد يومين اذن العلاج لم يجدي نفعاً ومع ذلك فإن فان جوخ كان يظهر كل قدرته الفنية في فترات الهدوء التي كانت تعقب النوبات وظل قادراً بين نوبة وأخرى على تقويم وضعه وفنه برؤية واضحة فخرجت من بين انامله تلك اللوحات التي لم تُعرف قيمتها الحقيقية. وفي المعرض الوحيد الذي أقامه في بروكسل باع اللوحة الأولى والأخيرة في حياته وعن لوحاته يقول: لوحاتي لا يشتريها أحد وأنا لست مسؤلاً عن ذلك وسيأتي يوم ويكتشف الناس ان هذه اللوحات أغلى من حياتي فأنا أرسم للمستقبل وبالفعل كان يرسم للمستقبل ووحده عرف قيمة فنه وذاته ومع انه زامن التأثيرين الا انه تجاوزهم ولامس الطبيعيين والرمزيين ومن السخرية انه عاش في البؤس والعوز والفقر معتمداً على عون أخيه ثيو كل ذلك في سبيل شغفه برسم الأشخاص حيث كان يقول: أحب أن أرسم الوجوه ولا أريد أن أنقلها نقلاً فوتوغرافي ولكن حسب طريقتي في رؤية الأشياء وفي إستخدام الألوان باعتبارها وسيلة لتجاوز ما أراه ويصف الطبيعة قائلاً: حين أكون في الطبيعة أفقد وعيي وتأتيني الصور كما لو أنني في حلم. واليوم ربما يمكننا ان نعرف سر الضربات القوية الحادة والعاصفة أحياناً في فرشاته والتي تعود ربما لحدة تلك النوبات التي كان يعاني منها وحتى أخر أيام حياته استمرت قدرته الخلاقة على الإبداع ولم يطلها الوهن وظلت تعابيره الفنية راكزه ومليئة بالحيوية والتكوين المتماسك. ياسمين زكي: فنسنت فان جوخ.. الرجل ذو الغليون قرر ألا يستسلم.. فما لبث في زروة فشله، أن كتب لأخيه ليقول له "إنني بالرغم من كل شيء سوف أنهض ثانية.. سوف أتناول من جديد ريشتي التي تخليت عنها في أيام انكساري، وسأعود للرسم، والآن يبدو لي كل شيء وقد تغير". ومنذ ذلك الحين آمن تيو بأخيه فان جوخ، وسنح له الفرصة ليخرج أعظم الأعمال الفنية، حيث لم ينقطع طيلة السنوات العشر التالية عن بذل المعونة المالية لأخيه وتشجيعه ومساعدته بكل ما استطاع توفيره من دخله المتواضع. ببلوغ فان جوخ السابعة والعشرين من عمره التحق بأكاديمية الفنون في مدينة انفري، حيث بدأ حياته في عالم الألوان. عكف على رسم الفلاحين الهولنديين وعمال المناجم والبؤساء مسجلاً ما نقش في مخيلته من ذكريات في مجموعة من اللوحات الحزينة القاتمة القوية التعبير وهي المرحلة التي يطلق عليها في فنه "المرحلة الهولندية" التي امتدت ما بين عامي 1854، 1855، وفي العام التالي رحل فان جوخ إلى باريس للإقامة مع أخيه في أستوديو بحي" مونمارتر"، حيث كان أخوه تيو من تجار الصور المهتمين بتتبع الاتجاهات الحديثة في الفن، فقد كان مديرًا لفرع إحدى المؤسسات الفنية. هذا الفنان العبقري لم يكن يرسم كثيرا فقط، بل كان يكتب أيضا بنفس الحرارة والتوهج كمًا هائلا من الرسائل والخواطر إلى شقيقه، والتي جُمعت في كتاب من ثلاثة مجلدات تضمنت آرائه في الرسم وفي النقد والمجتمع و المرأة وعن نفسه في أغلب الأحيان. سعد "فان جوخ" كثيراً بصحبة أخيه بعد ما قاساه من وحشة وحرمان، وكذلك سعد بحياته الجديدة في باريس، فما لبث أن تغيرت ألوانه القاتمة، وحلت محلها الألوان الزاهية البراقة التي ربما عكست رؤيته للحياة في تلك الفترة، والتي اتجه فيها إلى دراسة النظريات والأساليب الفنية الجديدة ومناقشتها مع أصحابها، بل وتجربتها في لوحاته، كما تعرف خلال هذه الفترة على عدد من الفنانين الشباب ومنهم "تولوزلوتريك" و "بول جو جان". كما تأثرت لوحاته بالرسوم اليابانية المطبوعة.. ثم ظهرت تأثيرات تجارب زملائه المعاصرين على فنه، وبعد مضي عام آخر كان قد استوعب كل ما حوله من تجارب ليصبح مهيئاً لمرحلة ناضجة استغرقت بقية حياته. واستمرت إقامة فان جوخ الأخيرة في باريس لمدة عامين إلى أن قرر فجأة في فبراير عام 1888 السفر إلى بلدة " أرل" بمقاطعة " بروفانس"، في جنوبفرنسا حيث الشمس الساطعة طوال النهار والألوان المتوهجة، وعكف خلال العامين التاليين على الرسم في سعادة وحماس، لدرجة أن لوحاته في تلك الفترة تشع حيوية في ألوانها وشكلها. ومع أنه كان يرسم بأسلوب لمسات الفرشاة المتعددة الألوان إلا أن لمساته في تلك الفترة كانت أعرض وأقوي. شرح طريقته في خطاب لأخيه يقول فيه: "إنني بدلاً من محاولة نقل الطبيعة بأمانة استخدمت الألوان بحريه ودون تقيد من أجل التعبير عن نفسي تعبيراً قوياً". في هذه المرحلة دعا بول جو جان إلى الإقامة معه وهو يحلم بإنشاء رابطة للفنانين وبأن يكون منزله هو نواة تحقيق هذا الحلم، إلا أن وصول جو جان أعقبته المتاعب، فالمناقشات احتدمت والخلاف في الرأي اتسع والصخب الذي يثيره أينما حل أدى إلى توتر أعصاب فان جوخ حتى كان الانفجار عندما سخر جو جان من فكرة إنشاء رابطة للفنانين، وعندئذ قذف فان جوخ محتويات كأسه من النبيذ في وجه جو جان ثم أغمى عليه. حمله "جو جان" من المقهى إلى المنزل وأرقده في الفراش، وفي الصباح ندم "فان جوخ" و طلب من زميله الصفح، ولكنهما ما لبثا أن عادا إلى الشجار بعد منتصف الليل، وتطور غضب "فان جوخ" لدرجة جعلته يخرج موس الحلاقة ويشهره في وجه "جوجان"، بل وجرى وراءه في الشوارع محاولاً قتله، ولكنه عاد إلى بيته بعد أن أفاق وهو يشعر بحالة تمزق عنيف. ورحل "جو جان" تاركاً "فان جوخ" التي ظلت حالات الهياج الجنوني تعاوده من حين لآخر، حتى قام في إحداها بقطع آذنه وربط رأسه المصاب ثم قدم الأذن المقطوعة في لفافة إلى محبوبته التي طلبت منه أذنه خلال إحدى مداعباتها له. وعندما عاد إلى بيته أغمى عليه ولم يفق إلا في المستشفى، وعندما استرد صحته طاردته أنظار أهل البلدة وصيحات أطفالها.. فانهارت أعصابه ولم يجد أخوه بداً من نقله إلى مستشفى للأمراض العقلية بالقرب من "أرل"، وهي المستشفى التي مكث فيها عام، وسمح له بالرسم فيها فظهر في لوحاته بهذه المرحلة شيء من عنف نوبات الصرع التي تعرض لها. وعندما نجح أخوه في بيع إحدى لوحاته بمبلغ 400 فرنك.. اقترح أن يستخدم هذا المبلغ في الاستشفاء بمصحة خاصة قرب باريس يشرف عليها طبيب يدعي "دكتور جاشيت" وهو من هواة الفن، وقد أمضي هذا الطبيب أوقاتاً طويلة في صحبته، ولكن نوبات الصرع راحت تتوالى بانتظام وسئم جوخ الحياة، فخرج إلى حقل مجاور وأطلق على نفسه الرصاص ولكنه لم يمت على الفور، حيث نقله تيو إلى المستشفى التي مات بها بعد يومين، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، بعد أن رسم أكثر من 700 لوحة وحوالي 1000 رسمة. مات معدما، هزيلا، نحيلا، مهووسا، بعد أن طارده المرض وقذف به إلى مصحة عقلية، مات فان كوخ ليبدأ العالم تذكره وكتابة اسمه في قائمة الخالدين بأعمالهم، الآن لوحاته لا تقدر بملايين الدولارات، وهو كان يعيش أياما بأكملها على رغيف خبز واحد..!