في كل مرة أقرأ فيها عن "أخطاء تاريخية بالجملة" في أحد المسلسلات، أو الأفلام أو القصائد، أتساءل عن الفارق بين العمل الفني الإبداعي، وبين العمل الوثائقي، بين الفنان والمؤرخ، بين رصد الأخير للحوادث والوقائع ولأشخاص، وبين رؤية الأول وتناوله وإسقاطه لكل ما سبق على الواقع. الواقع والمستقبل هما موضوع الفنان، ومحل اهتمامه وسؤاله، والتاريخ بالنسبة إليه سبب وإجابة، من الممكن أن يعود إلى صفحاته لإعادة القراءة، ل"يتناوله" وهنا تكمن الأزمة، أزمتنا في التعامل مع المبدع حين يتناول التاريخ، أو حين يكون التاريخ مسرحا وممثلين، وهو الكاتب والمخرج. … في قصيدته حوار خاص مع ابن نوح، أخطاء تاريخية بالجملة، هذا إذا اعتبرنا أن أمل دنقل كان يكتب لنا نصا تاريخيًا أو تحليلا للمثيولوجيا، أما وإننا لاحظنا أنه كتب قصيدة، إذا فنحن متورطون معه في فتح المسرح مرة أخرى، ومهيؤون لاستخدام الأحداث والأشخاص والحوار، أي استخدام العناصر مرة أخرى، بما يمكننا من قراءة الواقع، بالترميز والإسقاط، ففي القصيدة المذكورة، يصبح ابن نوح، بطلا مخلصا للوطن، لم يتخل عنه مثلما فعل راكبو السفينة. أربعة من كبار مبدعي مصر، يرتكبون أخطاء في صياغة التاريخ، حين يكتبون قصة وسيناريو وحوار الفليم الشهير الناصر صلاح الدين، هذا إن اعتبرناهم يكتبون نصا تاريخيا أو تحليلا للحدث التاريخي، بينما كان هم يوسف السباعي ، محمد عبد الجواد، نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، لا يعنيهم سوى تناول تلك المرحلة التاريخية المهمة، وإسقاطها على مرحلة واقعية حرجة، تحتاج الثقة بالذات، والإيمان بالنصر، وكل ما وجدوه ملائما في تلك المرحلة، حتى فكرة الديكتاتور العادل، والقومية العربية، بل -ولأنهم يتحكمون بكل شيء على خشبة المسرح/ التاريخ، أمكنهم اختلاق بعض الشخصيات، كمعادل فني، مثل عيسى بن العوام، حيث جسدوا من خلال شخصيته معادلا موضوعيا للمواطنة. … في 2012 خرج إلى النور مشروع المخرج الشاب أمير رمسيس وهو فيلم وثائقي بعنوان "عن يهود مصر" والذي رصد فيه أثر اليهود المصريين من خلال شهادات أبنائهم وأحفادهم اللذين مايزالون يقيمون في مصر بعدما رفضوا الهجرة إلى الكيان الصهيوني، متمسكين بجنسيتهم المصرية، هنا لا يضع أمير رؤيته للتاريخ أو يسحبه على الواقع، بل يقوم بتوثيق تاريخي، عب الكاميرا وإمكانات السينما. أما أن يعمل مدحت العدل على كتابة مسلسل "يتناول" فيه يهود مصر، فهذا لا يمت للتوثيق بصلة، وإنما هو يعبر عن رؤيته الخاصة للتاريخ، ويسقطه على الواقع، من هنا يمكن أن نناقش العدل في تلك الرؤية، كما يمكنه هو أن يبدل العناصر ويحل إحداها محل الأخرى، يقدم ويؤخر، يتعاطف مع شخصية ويكره أخرى، ولنا في النهاية أن نقرأ واقعنا من خلال وجهة النظر تلك، ونرفضها كلية أو نقبلها كلية أو نتفاعل معها، متقبلين بعضها ورافضين البعض الآخر، ذلك لأنها رؤية فنية، وهو ما لا يمكن وليس بوسعنا أن يحدث حين نتعامل مع التاريخ البحت، فلا يمكن أن نرفض ما كان، فهو قد حدث، ولنا أن نتقبله كخطأ أو صواب ونختلف في وجهات النظر والتبريرات، دون أن ننال منه شيئا. بالأمس القريب اختلفنا ومازلنا حول أحداث عايشناها، منذ اندلاع الثورة، رغم تسجيل كل لحظة بالصوت والصورة، فما بالنا بالتاريخ البعيد والأبعد. إذا كنت تريد أن نعرف تاريخ صلاح الدين، والحملات الصليبية، فلا تذهب إلى فيلم يوسف شاهين، ولا تقرأ قصيدة دنقل إذا أردت معرفة ماذا فعل ابن نوح، ولا تشاهد مسلسل حارة اليهود، بل اقرأ كتاب التاريخ، أو ابحث عن فيلم وثائقي.